يبدو أنّ هذه الانتخابات صارت حتميّة حتّى الساعة؛ لكن هذا لا يمنع فرضيّة تطييرها تحت أيّ ذريعة الأرجح قد تكون أمنيّة خطيرة لا سيّما بعد سقوط الذرائع اللوجستيّة عن بكرة أبيها. فأهميّة هذه الانتخابات تكمن في مصيريّتها بالنّسبة إلى الأفرقاء جميعهم. ولا يمكن أن تستمرّ الحياة السياسيّة في لبنان على قاعدة الحفاظ على الستاتيكو القائم كما هو، أو بتبديله تبديلاً طفيفًا.
ومن المفيد مراقبة الخطّ البياني لـ»حزب الله» وحلفائه للتمكّن من قراءة موضوعيّة للمعطيات الانتخابيّة. فبعد التسريبات عن زيارة لأحد المسؤولين في التيار الوطني الحرّ إلى الشام لطلب تأجيل الإنتخابات النيابيّة، صدر خطاب لأمين عام «حزب الله» يعتبر فيه أنّ هذه المعركة الانتخابيّة هي معركة حلفائه وليست معركته هو فحسب. إن دلّ ذلك على شيء فعلى مأزوميّة الطرف السوري الذي لم يستطع أن ينتزع من الإيراني موافقته الضمنيّة على أيّ تأجيل للإنتخابات في لبنان.
وهذا ما يدلّ الى أبعد من ذلك بكثير. بمعنى آخر يبدو أنّ الملفّ اللبناني مطروح على طاولة فيينّا على قاعدة إعادة العجلة السياسيّة إلى طبيعتها ولو بمباركة إيرانيّة – سوريّة ترجمها أمين عام الحزب في خطابه الأخير. لذلك يبدو حتّى الساعة أنّ إجراء الانتخابات بات حتميًّا، لأنّ هذا المحور يقاربها من وجهة نظر مصيريّة، كي لا يكرّر الخطأ الذي وقع فيه في انتخابات العراق الأخيرة؛ وكي لا يضطرّ إلى استعمال فائض قوّته في الساحة اللبنانيّة؛ وهذا ما لم يعد مقبولاً من اللبنانيّين معظمهم لا سيّما بعد غزوة عين الرّمانة الأخيرة؛ وفشله في قبع القاضي طارق البيطار المحقق العدلي في قضية تفحير مرفأ بيروت وإن كانت الدعاوى المرفوعة ضده وضد الدولة اللبنانية تجمّد التحقيق.
وهذا الوضع يؤشّر إلى انكسار جديد لهذا المحور، ما سيدفعه للإستشراس أكثر على خوض هذه الانتخابات بعدما لمس تعذّر تأجيلها من بوّابة أوليائه الإقليميّين نتيجة للضغط الذي يتعرّضون له في مفاوضاتهم التي تدور رحاها في فيينّا. لكنّ هذه الفرضيّة لا تعني استبعاد فرضيّة اجتراح سبب أمنيّ قد يؤدّي إلى زعزعة البلد برمّته وإدخاله في ستاتيكو جديد قد يؤدّي إلى انعقاد المؤتمر الدّولي المرتقب. وذلك على قاعدة أنّ التسويات لا تحصل على البارد بل على الحامي.
أمّا بالنسبة إلى الخطّ الذي يعارض هذا التوجّه في لبنان فتبدو الاستعدادات الانتخابيّة في أوجها والقاعدة التي اعتمدتها الأحزاب المعارِضَة هي قدرتها على التغيير؛ وذلك تحت الشعار الذي أطلقته القوّات اللبنانيّة «نحن فينا». وقد استندت القوّات إلى التجارب الحكوميّة والنيابيّة التي خاضتها والتي زادت من رصيدها السياسي بحسب الخصوم قبل الحلفاء. وهذا ما جعلها قوّة استقطابيّة انتخابيّة وشعبيّة. ولا نخفي سرًّا إن جاهرنا بأنّ هذا ما يَعِدُ بقدرة سياسيّة ستكون القوّات في المرحلة المقبلة محورها الأساسي. ومن هنا مقاربتها المصيريّة أيضًا لهذه العمليّة الانتخابيّة.
كذلك المجموعات الثورويّة ترى في هذه العمليّة فرصة قد لا تتاح لها من جديد لتثبت ذاتها فتأخذ دستوريّتها، وتحفظ لها مكانًا في صلب المؤسسات الدستوريّة، ما يسمح لها بإثبات وجوديّتها في تركيبة الدّولة. من هنا تبدو مقاربتها مصيرية أيضاً ولكنّها تفتقر إلى المشروع الواضح الذي ضاع في مَهْمَهِ الشعارات الفضفاضة. وهذا ما قد يؤدّي إلى نفور شعبي من النُخب المجتمعيّة الذين سيمنحون أصواتهم حتماً لمن يملك الوضوح في الرؤية.
لذلك كلّه تعتبرُ هذه الانتخابات مصيريّة بالنسبة إلى الأفرقاء كلّهم، ولا يمكن لأحد أن يبقى على الهامش لأنّه يكون قد اختار الموت الإرادي. بمعنى آخر اختار الانتحار السياسي. ومن هذا المنطلق، اللبنانيون جميعهم مدعوون لأن يقولوا كلمة الحقّ. ولا يخافَنَّ أحدٌ من المتسلّقين على جبال السياسة فهم ما زالوا في القعر، وإن كانوا يرون أنفسهم أنهم باتوا في القمم. أمّا أولئك الذين يسيرون بعكس مواكب الحرّيّة، فسيلفظهم التّاريخ كما لفظ كلّ الذين قبضوا الثلاثين من الفضّة، وانتهوا على حبلٍ رثٍّ معلّقٍ على شجرة تين غَضَّةٍ. والتاريخ يشهد.