بات لبنان على بُعد شهر من استحقاق الانتخابات النيابية وفقاً للدُّستور، أو العرس الديمقراطي وفقاً للعُرف الذي طالما طغى على الدستور في الممارسة السياسية اللبنانية. ويُسجَّل للبنان واللبنانيين أنهم من أكثر البلدان والشعوب حماسةً للأعراس، إذ يتبارى الميسورون، بطرق شرعية أو غيرها، في استعراض ثرواتهم (أو منهوباتهم)، خلال عقد قران أنجالهم وكريماتهم في الدعوات والزفّات والموائد وقوالب الحلوى والمطربين والطبّالين والكمنجاتيين ومصمّمي الأزياء ومصفّفي الشعر وطالِي الوجوه وغيرها من العروض الجانبية، في سيركٍ جديرٍ بالعرض على مسارح برودواي أو في ملاهي لاس فيغاس. منافسات حفلات الزفاف لا تقتصر على الأغنياء، فحتى عرسان الطبقة الوسطى ينظّمون عروضاً تُفلسهم لسنين من أجل حفلات مستنسخة مكلفة لا تأتيهم إلا بِوَهم التميّز ونقد لا متناهٍ من المدعوّين.
لكن، رغم الهوس اللبناني بالأعراس، قليلون هم المتحمّسون لافتتاحية موسم أعراس صيف 2022 في الخامس عشر من أيار. فقط عذارى السياسة، الذين «ما باس تمهم إلّا أمهم» وأضحوا ثوّاراً ذات يومٍ في تشرين، ينضحون حماسةً لليلةٍ سيكتشفون فيها أن أداءهم لا يرتقي إلى المتوقّع. من بين أطرف هؤلاء أحد العلمانيين، حتى النخاع، الذي بدأ بالحديث عن طموح في الوصول إلى قصر بعبدا لمجرّد استيفائه عُرف المَوْرَنة الرئاسي، رغم أن إنجازه الانتخابي الوحيد حتى الآن هو أنه اجتاز الانتخابات التمهيدية في حملته، علماً بأن معظم مرشّحي الحملة فعلوا ذلك. اللوثة الرئاسية التي تُرجمت حماسة انتخابية تغييرية عند انطلاق موسم الحملات الانتخابية الخريف الماضي، تتركّز هذه الدورة في دائرة الشمال الثالثة. فدائرة «الأقضية الأربعة» تُؤوي مرشّحين أربعة للرئاسة الأولى، اثنان منهم مرجّحان ليمكثا في بعبدا «إثنتي عشرية» من السنين القادمة (أحدهما مرشّح للانتخابات النيابية بشخصه والثاني بنجله)، بينما الآخران هما مشروعا خوان غوايدو وعبد ربه منصور هادي لبنانيان (أيضاً أحدهما مرشّح للانتخابات بشخصه والثاني بعقيلته). لكن هذه الحماسة خفتت مع عتمة الشتاء الموعود بالغاز المصري، الذي كان أول الوعود الانتخابية التي نكثت بها السفيرة الأميركية، وهي كانت وعدت به يوم حاولت مناطحة جبران باسيل على مقعده النيابي. كانت دوروثي شيا موجودة بقوة على أرض «الأقضية الأربعة» في أول أيام الحملة الانتخابية، تفتتح لوحاً شمسياً هنا أو جلّاً زراعياً هناك، قبل أن تُفقدها أرقام الاستطلاعات الأمل في تغيير المشهد البرلماني اللبناني من خلال صناديق الاقتراع، فاعتكفت عن النشاط الانتخابي العلني وألقت لوم تبخّر الغاز المصري على المحامين الذين يخطّون العقود المعقّدة التي تتطلّبها صفقة استجرار ساعتَي كهرباء إلى بلد بحجم حيّ قاهري.
وعلى سيرة البخارِ الانتخابي، انبعثت روح مفاجئة في بيروت مع إطلالة هلال شهر رمضان وإفطاراته مَحَت إحباطَ سنةٍ (أو أقلّ بقليل) من غيابٍ للعُربِ عن لبنان. على قاعدة «لا يفيدك إلا قديمك»، وفي غياب الحماسة للزفاف مع الضرّة «السبعتعشية»، نُفض الغبار عن الآذاريين الأصليين في محاولة يائسة لاستنهاض هممٍ هائمة في همومها قبل أيام من استفتاءات شعبية لا يريدها أحد منهم. لكن رغم ذلك، ما زال العرس الديمقراطي قائماً، حتى الآن، ومليئاً بالفواصل الترفيهية الهزلية، من نجيب «اسمي خالد علوان» إلى فادي «كما يقولون في الدارج self made man»، ومن وضاح «الثائر على خطى بولا يعقوبيان» إلى التوأمين ميشال حرب ومجد المر وغيرهم من العرسان. عرسان يُعقد عليهم الأمل بمستقبل «غَير» في لبنان.
حب اللبناني للأعراس بخير، مثل الليرة، لكنّ المشكلة أنه في العُرف غالبية الزيجات تشترط مهراً، ولا حفل زفاف من دون تنقيط، أو كما يقولون في الدارج «liste de mariage». المهر في البنك لا خوف عليه، أما التنقيط فحاله حال الغاز المصري. السخاء الأوروبي والأميركي لم يُتَرجم بهجة، لأن فاقد الشيء لا يمكن أن يعطيه. أما بالنسبة إلى الكرم العربي الذي اعتادت عليه الأكثريات النيابية في مجلس تلو الآخر، فقد حوّله محمد بن سلمان إلى استثمارات خاسرة في لوحات فن ويخوت ترف ورؤى وهم وعواصف عزم. كانت توجد بوادر تمويلية من البنكرجيين الجدد المنتشرين الذين أسّسوا منابر لقيادة المجموعات الثورية غير السياسية. لكنهم كغيرهم تراجعوا بعد أن فرّقتهم الخلافات الشخصية، غير السياسية هي الأخرى، وبعد أن تبيّن أن حسابات حقل ساحاتهم لا تتطابق مع حسابات بيدر صناديق اقتراعهم. على الأقل، البنكرجيون الجدد، بعكس القِدِم، يثقون بالأرقام التي تظهرها الآلات الحاسبة.
أكثر من سيخيب ظنه إن أُرجئت الانتخابات هم جماعة الـ 200 والـ 300 صوت الذين سيدّعون أن المنظومة خافتهم فأسكتتهم
يُحكى عن إمكان تأجيل الانتخابات أو إلغائها، ومن المعروف أن الأعراس اللبنانية لا تكتمل من دون مفرقعات وألعاب نارية، وفي بعض الأحيان رصاص طائش. أكثر من سيخيب ظنه إن حصل ذلك هم جماعة المئتين والثلاثمائة صوت، الذين سيدّعون أن المنظومة خافتهم فأسكتتهم. هؤلاء هم تحديداً من عنتهم عبارة «نوماً هنيئاً لأطفالكم» في دعوات الأعراس التقليدية. أما بالنسبة إلى «الكبار في الغرفة»، وهو التعبير الذي استخدمته رئيسة صندوق النقد الدولي السابقة ورئيسة البنك المركزي الأوروبي الحالية كريستين لاغارد لتعيير اليونانيين باختيارهم لحزب يساري لمفاوضة صندوقها عندما كانت تُخضعهم لشروط الدائنين، فعليهم أن يتمسكوا بالانتخابات، فهي من آخر مقوّمات شرعية دولتهم. لكن أيضاً عليهم أن يَعوا أن المعركة الحقيقية لا تدور في مبنى وزارة الداخلية والبلديات يوم الخامس عشر من أيار، بل على الجانب الآخر من شارع الحمرا، حيث «صيغة الذهب». هم طبعاً يدركون ذلك، ولذلك لا بأس أن يكون العرس الانتخابي «من قريبو» وبميزانية متواضعة. والرقصة الأولى ستكون حتماً على أنغام أغنية «بلا ولا شي»، لأن ما يهمّ هو الحب الحقيقي وليس المظاهر. أكيد أنهم يدركون ذلك. لكن ماذا يفعل الفرزلي وخير الدين وكنعان على رأس الدبكة؟