الصراع على هوية لبنان ليس جديداً. ولا هو توقف حتى بعد إتفاق الطائف والنص في الدستور أن لبنان “عربي الهوية والإنتماء”. لكن نوعية الصراع اليوم توحي أن الدنيا تغيرت الى الوراء في لبنان ومن حوله بأكثر مما نراه ونلمسه ونعيشه. ففي الخمسينات من القرن الماضي أصدر الدكتور جورج حنا كتاب “ضجة في صف الفلسفة” ضمن النقاش الفكري الدائر بين الأحزاب والشخصيات والإتجاهات اليسارية واليمينية، الأممية والقومية والكيانية. نقاش على مستوى رفيع بين المؤمنين بأن لبنان أمة لا يُنعت إلا بذاته، والمؤمنين بأنه جزء من أمة سورية، والمؤمنين بأنه قطر في أمة عربية، والمؤمنين بالأممية والمؤمنين بالمتوسطية وحتى الفينيقية. ونقاش بين دعاة الشيوعية والإشتراكية والليبرالية الإقتصادية. والكل يسلم بأهمية الحرية والديمقراطية.
أما العنوان الذي يعبّر عن المستوى المتردي للسجال الدائر حالياً، فإنه: ضجة في صف التفاهة. ولا يبدل في الأمر أن تدار السجالات المزرية من أطراف تتحدث عن مشاريع جذرية للبلد. فلا شيء له علاقة بمعناه. ولا طرف يتذكر أن الناس لم تفقد ذاكرتها، ولا هي تحتاج الى مقياس للخيار وإتخاذ المواقف أكثر من الوضع البائس الذي قادوها إليه وجلسوا يتفرجون.
ذلك أن معركة الإنتخابات تبدو هزيلة، وسط حماسة المرشحين وبرودة الناخبين وضخامة الرهانات عليها. رهانات محلية مرتبطة برهانات على صفقة أميركية-إيرانية أكبر من الإتفاق النووي، كما على ما تنتهي إليه حرب أوكرانيا من “هندسة” جديدة لنظام عالمي ثم نظام إقليمي من ضمنه نظام لبناني. وهي رهانات سوريالية، حيث يستحيل أن تُعطى قوة إقليمية واحدة حرية الحركة وتوسيع النفوذ في العالم العربي بقوة محورين متنافسين: محور غربي تقوده أميركا، ومحور شرقي تقوده الصين وروسيا. فكيف إذا كان لبنان “ساحة” للتنافس؟
وليست الشعارات والبرامج الإنتخابية سوى جزء من “عدة الشغل” في المعركة. فاللعبة في جوهرها هي الصراع على السلطة. والمتصارعون يواجهون قوى على الأرض، لا أشباحاً. قوى تعمل للمشروع الإقليمي الإيراني في مواجهة قوى تعمل لإستعادة البلد المخطوف وبناء مشروع الدولة. لكن المفارقة أن “حزب الله” المطمئن الى أنه يملك من “فائض القوة” ما يكفيه ويكفي حلفاءه يتصرف كأنه يحتاج الى معارك وهمية. من تصوير الإنتخابات بأنها معركة لـ”كسر الحصار الأميركي” على لبنان الى إخراج لبنان من “التبعية لأميركا” وقطع الطريق على “التطبيع مع إسرائيل”، حسب نائب الأمين العام الشيخ نعيم قاسم. لكن الحصار الأميركي خرافة تنسفها نظرية “التبعية لأميركا” والتطبيع مع إسرائيل مسألة ليست على جدول الأعمال لأحد. معركة ضد وهم. شيء من حرب دون كيشوت على طواحين الهواء، مع أن المعركة الحقيقية هي على روح لبنان ومستقبله.
يقول مثل روسي: “مهما قفزت عالياً، لا يمكنك القفز بعيداً من نفسك”. وهذا ما يحتاج الى تعلمه اللبنانيون الذين يقفزون من فوق الأزمات متصورين أنهم يجدون الحل.