يبدو واضحاً قبل 17 يوماً على افتتاح صناديق الاقتراع، انّ الوقت ما زال متاحاً لتصفية «الحسابات الانتخابية» وتبادل الأفخاخ والمكائد بين المشاركين في السباق الى ساحة النجمة. ولعلّ ابرز ما يوحي بذلك تترجمه محاولات تفكيك اللوائح وتخويف الناخبين، تزامناً مع ما يُبذل لنقل الناخبين المتردّدين الى ساحة المشاركة الفعلية في العملية الانتخابية، وهو ما يستحق التوقف عنده لاستكشاف تأثيراتها على النتائج المتوقعة.
من الطبيعي ان يلجأ المرشحون للانتخابات النيابية المقبلة ومن خلفهم القوى التي تقود السباق الانتخابي، الى كل الوسائل المتاحة لضمان الفوز، بما فيها تلك التقليدية المسموح بها، او التي يمكن فرضها بالهيمنة والقوة القاهرة. فالعملية الانتخابية لهذه الدورة تكتسب أهمية بالغة في مثل هذه الظروف الدقيقة التي تمرّ فيها المنطقة وانعكاساتها على الساحة اللبنانية على أكثر من مستوى. وعليه يمكن النظر عند التمعن في بعض الخطوات الجارية الى ضرورة قراءتها بعيون مختلفة. فالتشكيك في إجراء هذه الانتخابات في موعدها ما زال قائماً، نتيجة التحدّيات والخيارات التي اتخذتها القوى القادرة للاستثمار فيها وربطها بكل ما يجري في المنطقة، في ضوء المواجهات المفتوحة بين الأحلاف الكبرى.
ففي العلم السياسي يمكن تكبير حجم القوى المناهضة لأي طرف بغية تكبير حجم أي انتصار يمكن ان يتحقق وتبرير الفشل في حال حصوله. وهذه النظرية يمكن إذا تمّ اللجوء اليها ان تفيد في تغيير بعض المعادلات ولو مؤقتاً، والتأثير في أجواء الناخبين وتكوين موجات انتخابية في وقت قياسي قبيل فتح صناديق الاقتراع. وكل ذلك يجري من اجل استعادة «مساحة شعبية» فُقدت لفترة من الزمن او أنّها وقفت على الحياد، ومن اجل الحشد لنصرة هذه اللائحة او تلك. عدا عن تلك المواقف التي أحيت الاجواء الطائفية والمذهبية واستخدمت فيها السلطات والمؤسسات عند استغلال بعض الأحداث الأمنية التي شهدتها البلاد والرهان على الإفادة منها الى أقصى الحدود.
ولئلا يبقى النقاش نظرياً، لا بدّ من الإشارة الى معطيات تعطي صورة واضحة عن التحولات الانتخابية السريعة التي سُجّلت في الايام والاسابيع القليلة الماضية، وتلت الإعلان عن المِهل الدستورية والمواعيد الخاصة بالعملية الانتخابية، بمعزل عن تأثيراتها الحاسمة على النتائج المتوقعة في بعض الدوائر من عدمه. ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
– ما زالت تفاعلات قرار الرئيس سعد الحريري بالعزوف عن الترشح والاقتراع وتعليق نشاطه السياسي تلقي بثقلها على عدد من الدوائر الانتخابية، فاختلط حابلها بنابلها، وتفجّرت مشكلات عائلية وعشائرية كان النقاش فيها قد حُسم منذ اكثر من عقدين. كذلك سمح بتفجير العلاقات بين أبناء الصف الواحد، فاستُبيحت الساحة السنّية لمشاريع عدة، منها ما كان كامناً كالجمر تحت الرماد، كذلك سمح باستهدافها على يد قوى عدة كانت تطمح الى خرقها واستعادة ما فقدته منها لدورات عدة.
– ظهر جلياً انّ هناك قراراً كبيراً بمنع حصول أي خرق في بعض الدوائر الانتخابية التي تُحتسب على قوى سياسية وحزبية ودينية، سعت الى احتكار تمثيلها بلا اي منازع. وهو ما ستترجمه الاستحقاقات التي يواجهها «الثنائي الشيعي» بأساليب تقليدية اعتُمدت في الدورات السابقة، فاستحال على القوى المناهضة له ان تشكّل لوائحها. وإن نجح بعض القوى والشخصيات هذه المرة في تشكيل البعض منها على خلفيات ما تركته انتفاضة 17 تشرين 2019 من تردّدات في مجتمعاتهم المغلقة، فإنّ العيون ستكون مفتوحة، إن سُمح بتواجد مندوبين لها في صناديق الاقتراع، بعدما حالت أحداث مختلفة دون السماح بالإعلان عنها. وجاءت الانسحابات من بعض اللوائح في البقاع الشمالي، بعد ايام على الإعلان عنها، لتزيد في الطين بلّة، وتلقي على عاتقها مسؤوليات أكبر تجاه مجريات عملية الانتخاب، وسط مخاوف جدّية من ان تؤدي أي «دعسة ناقصة» او خطأ، إلى فتح الباب واسعاً للطعن في نتائج الانتخابات أمام المجلس الدستوري، إن لم تتسبب بأحداث دموية لا سمح الله.
– في مواجهة التضامن الذي عبّرت عنه القوى التقليدية التي قدّمت نموذجاً غير مألوف في تشكيل «اللوائح الهجينة» الجامعة بين الخصوم والأضداد في مشوار قصير ينتهي مع إقفال صناديق الاقتراع، فقد ثبت انّ القوى التي سعت الى تكوينها القوى السياسية التي انتجتها انتفاضة 17 تشرين لم تقدّم النموذج المشابه لها. ولم تنجح المساعي التي بُذلت لضمان تحقيق ما نادت به هذه الأكثرية الموصوفة. والدليل انّ مسلسل التضحيات الجسيمة التي قدّمها البعض من قوى حزبية وشخصيات حتى الذوبان، لم تنتهِ الى ما أرادته من وحدة وتضامن ووضع حدّ لطموحات البعض. وبدل تقديم هذه الصورة التي حلم بها البعض بالتوصل الى لوائح موحّدة ومتضامنة تخيف القوى التقليدية المستهدفة، برزت الى الواجهة مجموعات امتهنت دور «أحصنة طروادة»، وهو واقع لا يمكن اخفاؤه على أحد نتيجة ما اتخذته من أشكال مختلفة. وأبسط الدلائل ظهرت في إغراق الدوائر الانتخابية بعشرات المرشحين واللوائح، فتلاقت بأهدافها السلبية مع ما انتهت إليه الجهود التي بُذلت لتفكيك مجموعات كانت تعطى مثلاً في حجم تضامنها، بدلاً من تعزيز هذه التجربة وتعميمها، وخصوصاً في الدوائر التي كانت تسمح بخروقات كبيرة كان يمكن ان تغيّر في نتائج الانتخابات بمقدار كبير لا شكوك فيها.
وإلى هذه المعطيات، فقد القت الأزمات المعيشية والاقتصادية بثقلها على مختلف وجوه حياة اللبنانيين، ما يستدعي جهداً مضنياً سيُبذل لضمان المشاركة الشعبية في الانتخابات المقبلة، وهو ما قد يرفع من حجم التحدّيات أمام القوى الساعية الى ضمان حضورها في مواجهة القوى التقليدية التي عبّرت عن تضامن فاق كل التوقعات. وإن عكست بعض الدراسات والإحصائيات الجديدة تقلّص المساحة الشعبية الرمادية، فإنّ قيادتها في الاتجاه الذي يوفّر التغيير ستفرض واقعاً جديداً، وباتت النتائج المتوقعة رهن ما بقي من وقت فاصل عن موعد فتح صناديق الاقتراع. وهي مهلة ما زالت كافية لتغيير كثير مما يمكن ان يتحقق من تغيير، ومعها الجهود المبذولة لتصفية الحسابات السياسية والحزبية بين القوى المتصارعة. فاللبنانيون الذين افتقدوا البوصلة نحو السياسات المستدامة باتوا في اكثريتهم يعيشون لحظات الانفعال ويبنون عليها قراراتهم السريعة والفورية.