IMLebanon

الثورة وبرلمان 2022

 

 

دروس انتخابية من تجربتي مع الحزب الشيوعي (1من 4)

 

توقفت الحرب الأهلية غداة انعقاد مؤتمر الطائف، انهار الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي، وانهارت حركة التحرر الوطني العربية، وانهارت الحركة الوطنية اللبنانية. كل القوى السياسية اللبنانية خرجت من الحرب خاسرة. النظام السوري كان الرابح الوحيد. تحول إلى نظام وصاية بمباركة الدول الكبرى وبمساعدة إيرانية. كان يمكن للحزب الشيوعي أن يكون القوة الوحيدة التي يمكن أن تمثل المعارضة اليسارية من خارج السلطة، ومن شأن ذلك، في حال حصوله، أن يعيد الاعتبار لبعض القيم اليسارية والشيوعية وللمفاهيم الثورية الماركسة والتقدمية التي تخلخلت بفعل الانهيارات الكبرى. غير أن قيادة الحزب راحت تلهث بحثاً عن مقعد في مجلس النواب اللبناني.

 

مسار الحزب الانتخابي بعد الطائف مسار مأزوم من لحظته الأولى. وافق على اتفاق الطائف واتخذ قرارين متناقضين، الأول حمل الأمين العام جورج حاوي على زيارة سمير جعجع في غدراس رغبة منه بإجراء مصالحة وطنية، والثاني حمله إلى دمشق رغبة بتمثيل الحزب في البرلمان بمقعد نيابي، غير أن التوافق الداخلي يفترض آليات للمصالحة، فيما اعتمد النظام السوري آلية “فرّق تسد” المنافية للوحدة الوطنية والتوافق الداخلي.

 

اتفاق داخل الحزب على تحليل موقف النظام السوري وتباين في المعالجة. البعث السوري، وكذلك العراقي، كان يعامل الشيوعيين كأتباع وملحقين وذيليين (الحزب الشيوعي لصاحبه حزب البعث)، لكن جورج حاوي الذي كان يحظى على الصعيد الشخصي لدى أركان النظام السوري بمكانة واحترام مميزين استقال من الأمانة العامة ولم يبق للحزب من امتيازات سوى الحصول على تصريحات بالمرور على الخط العسكري.

 

ليس مستبعداً أن يكون جورج حاوي قد استقال بعد أن خسر كل شيء، المشروع الوطني الديموقراطي، المقاومة الوطنية اللبنانية، وحتى الحظوة الشكلية التي لم تشفع له بحصوله شخصياً على مقعد نيابي لا في منطقته، المتن الشمالي، ولا خارجها، في عاليه. كان ذكياً بما يكفي فانكفأ ليجيّر للحزب مطلبه بمقعد نيابي، ثم انسحب بخيبة أمل من النظام السوري، ومن قيادة الحزب التي وافقت على دمقرطة الحزب فيما ظلت تمارس تحت سقف التحرر الوطني والأطر الستالينية.

 

في انتخابات 1992 كنت مع بعض الاصدقاء وراء نشر الخبر المتعلق بتشكيل لائحة اعتراضية، قوامها كل من السيد محمد حسن الأمين، الأب سليم غزال، حسيب عبد الجواد، منيف فرج، د.أسعد النادري وأنا. في اليوم التالي نفى المرشحون خبر ترشيحهم وتأكد للقراء أن المسألة ليست سوى دعابة أو لعبة مكشوفة لم يعبأ بها أحد، لعبة تولى إخراجها الصديق شبيب دياب بالتعاون مع صديقه وابن بلده فيصل سلمان في جريدة السفير.

 

عين الحزب على المشاركة في السلطة، ولو بمقعد نيابي واحد في كل لبنان، في حين أن وجهة التصويت ستكون ضد لوائح السلطة. الأسوأ من اللهاث وراء مقعد نيابي، مقعد واحد من 128، إدارة الحملة الانتخابية وتنظيم اقتراع الشيوعيين لخمسة مرشحين هم، حبيب صادق من داخل اللائحة الرسمية، ومن خارجها كل من سعدالله مزرعاني عن دائرة مرجعيون والدكتور أحمد مراد عن دائرة بنت جبيل والدكتور محمد حنينو عن دائرة النبطية والدكتور منير زيدان عن دائرة صور، إضافة إلى مرشح حزبي قرر أن يترشح من غير أن يطالب الحزبيين بالتصويت له. فوجئ مرشحا الحزب في النبطية وصور بأنهما لم ينالا أصوات الشيوعيين وكان ذلك سبباً لابتعادهما عن صفوف الحزب، كما فوجئت القيادة بأن الأصوات التي نالها أحمد مراد تفوق تلك التي نالها سعدالله مزرعاني فعملت على معاقبته وأبعدته عن إدارة مستشفى النجدة الشعبية اللبنانية في النبطية.

 

في الانتخابات التالية، عام 1996، ازداد الموقف النقدي حدة بعد أن تحقق لي ما كنت قد اقترحته قبل أربع سنوات، إذ تشكلت لائحة اعتراضية بقيادة حبيب صادق وعضوية ستة مرشحين، ونال رئيسها ثلث أصوات الناخبين في الجنوب. لكن قيادة الحزب رأت في تشكيل تلك اللائحة الاعتراضية بالذات نوعاً من الخروج على إرادة القيادة. في انتخابات عام 2000 تكررت تجربة اللائحة الاعتراضية بمشاركة مرشح الحزب فيها بعد فشله في الحصول على موقع له في اللائحة الرسمية، وتراجعت النتائج في صورة دراماتيكية. في انتخابات 2005 انهار مجد الحزب الانتخابي الذي بدأ في السبعينات بما يشبه الفوز لولا تزوير النتائج، بل انتهى بفضيحة تدني عدد الأصوات حتى حدودها الدنيا.

 

في انتخابات 2009 لم يعد الجنوب اللبناني دائرة واحدة بل أعيدت الدوائر الانتخابية إلى حجمها القديم كأقضية بدل المحافظات، فأعلنت ترشحي باسم اليسار اللبناني في منطقة النبطية. (سأفصل ذلك في مقالة لاحقة) مع أن الحزب لم يرشح أحداً في هذا القضاء إلا أنه منع الشيوعيين من الإدلاء بأصواتهم لأي من المرشحين بما فيهم أنا، حتى لا يغيظ الثنائية الشيعية.

 

مناوئو جورج حاوي وظفوا شعار التحرر الوطني ضد الوجود السوري بينما وظفه مؤيدوه التحاقاً تبعياً بهذا النظام وبجبهة الممانعة. ارتضى المناوئون مقعداً نيابياً لهم في طرابلس منحتهم إياه قوى 14 آذار بعد اغتيال رفيق الحريري، فيما راح المؤيدون يتوسلون أو يتسولون مقعداً لهم في الجنوب أو في البقاع الغربي ولم يحصلوا عليه رغم تقديمهم كل التنازلات المحتملة والمتخيلة، ومن بينها إعلانهم الصريح أنهم على استعداد لتأييد اللائحة في الجنوب حتى لو لم يدرج إسم ممثل الحزب في عدادها، وذلك تقديراً منهم لدور الشيعية السياسية في مقارعة الإمبريالية والصهيونية والاستعمار، بحسب تعبير مرشحهم الدائم.

 

الموقف من الانتخابات النيابية أحدث انقساماً قيادياً وانعكس على قواعد الحزب في الجنوب. ذلك أن نبيه بري اختار بالتشاور مع القيادة السورية، أو أنها هي التي اختارت، أن تتمثل الحركة الوطنية بأحمد سويد وحبيب صادق، الأول صديق لحزب البعث والثاني صديق للشيوعيين، فيما كانت قيادة الحزب تصر على أن تتمثل بشخص من القيادة. انصاعت قيادة الحزب لمشيئة نظام الوصاية فكانت “التخريجة” التي اقترحها جورج حاوي والتي قضت بأن يلتزم الشيوعيون بانتخاب مرشحيهم من خارج اللائحة إضافة إلى حبيب صادق من داخلها.