IMLebanon

وهْم الانتخابات… 7 مايو مكرَّر من دون قمصان سود

 

 

الأمر الوحيد الذي قد يُجمع عليه اللبنانيون هي حالة الفوضى والتخبط التي تطال وجوه الحياة كافة من السياسة إلى الأمن والاقتصاد والاجتماع، وتجلّت في عبثية الحملات الانتخابية قبيل يومها الأحد المقبل. ولعل أهم مسببات هذا التوهان المزمن هو غياب السلطة المركزية، وما من خلاف أن بناء هذه السلطة عبر الانتخابات التشريعية، هو الطريق الصحيح لأن الفراغ السياسي يستدعي تدخل قوى خارجية قريبة أو بعيدة، ويمنح القوى خارج الدولة والإرهابيين الحرية التي يحتاجون إليها كمنصة لتحقيق طموحاتهم الأوسع، كما حصل في أفغانستان والعراق واليمن وسوريا وليبيا، وكلها دول قدمت للمد الأصولي، بشقيه السني والشيعي، وللإرهاب بعامة، ملاذاً آمناً ومساحة واسعة للحركة.

المستفيد الأكبر من هذه الفوضى والفراغات هي إيران التي وجدت صيغة ناجحة لمد نفوذها إلى دول الجوار، صيغة تقوم على إنشاء وكلاء لها من أبناء هذه الطائفة وتقديم المال والسلاح والدعم السياسي واللوجيستي لهم. هؤلاء الوكلاء كـ«حزب الله» وميليشيات إيران الأخرى من أفغانية وعراقية وسورية ويمنية، لديهم التزام عقائدي ديني مذهبي بمشروع طهران الإقليمي، ومستعدون للعمل عبر الحدود لدعم سياستها التوسعية العدائية، ويعدّون قيادتها شرعية ونظامها الثيوقراطي نموذجاً سياسياً يُحتذى. تمكنت إيران من بسط نفوذها في المشرق بلا غزو عسكري بل عبر التسلل إلى البيئات المحلية الشيعية، ونجحت في فرض وكلائها ليصبحوا دويلات تنهش في قلب الدولة وتدفعها إلى الفشل، وأكبر نجاح لها هو «حزب الله» في لبنان.

هذه المقدمة لنسأل بمناسبة قرب الانتخابات التشريعية في لبنان هل الآليات الديمقراطية، وعلى رأسها الانتخابات، هي الحل المنشود في دول ضعيفة ومفككة اجتماعياً وتهيمن عليها قوة متشددة رافضة للقيم الديمقراطية تابعة للخارج؟ هل تُختزل الديمقراطية بصناديق الاقتراع وأطراف رئيسية مهيمنة لا تؤمن بالمشاركة السياسية وتداول السلطة والحريات ولديها توجهات غير ديمقراطية؟

التجارب في الإقليم لا تبشر بأن الانتخابات وحدها قادرة على حل مشكلات ضعف الدولة ورأب الانقسام الاجتماعي عندما تكون القوى المتشددة مسيطرة، لأنها تستخدم هذا الإجراء الديمقراطي للوصول إلى السلطة والانقضاض بعد ذلك على الديمقراطية. وأكبر مثال على ذلك هي انتخابات المجلس التأسيسي في تونس بعد الثورة عام 2011 حين فاز الحزب الإسلامي وحاول نزع الصبغة المدنية عن الدستور الجديد، ومن القبيل نفسه ما شهدته مصر بعد وصول «الإخوان المسلمين» إلى السلطة عام 2012. وفي العراق، كل المحطات الانتخابية التي شهدها بعد سنة 2003 لم تمنع العنف والسلاح المتفشي، ولم تحقق الديمقراطية المنشودة لأنها أوصلت وكلاء طهران المتشددين إلى الحكم، وعندما جاءت الانتخابات الأخيرة لغير صالحهم بسبب المتغيرات على الساحة العراقية وفي البيت الشيعي، عرقلت تشكيل الحكومة وعطلت انتخابات الرئاسة. ومع الفروقات الكبيرة بين أحوالنا وأحوال أميركا، نذكّر بما كتبه الباحث الأميركي غريغوري غوز مؤخراً بأنه يجب على أولئك الذين يعتقدون أن الانتخابات هي أفضل طريق لسد الانقسامات المجتمعية أن يُلقوا نظرة على آخر انتخابين رئاسيين في الولايات المتحدة. فعندما تنقسم المجتمعات بشكل حاد، لمن يجب أن تستجيب الحكومة؟ إن تلبية مطالب إحدى المجموعات سيؤدي تلقائياً إلى غلبة فئة على أخرى.

بالعودة إلى الحالة اللبنانية النافرة والفريدة، المراقبون الأكثر تفاؤلاً يرجحون أنها لن تغيّر المشهد السياسي بل ستعزز قوة وسلطة أطراف السلطة الحالية وعلى رأسهم «حزب الله»، وتبدد الكثير من آمال وأوهام تعلقت بها الشرائح الاجتماعية الفقيرة أو المهمشة، أو تلك التي تتوق إلى واقع أفضل لا سيما قوى التغيير التي تظهّرت بعد انتفاضة «17 تشرين».

تتباين المواقف من الاستحقاق الانتخابي الذي يصفه البعض بالتاريخي بين مؤيد لإجرائه في وقته مهما كانت الأوضاع المرافقة باعتبار الفراغ أشد خطراً وسوءاً، ومن يرى أن الاحتلال أو الوصاية أو السطوة بواسطة فائض القوة والسلاح لا ينزع عن الاستحقاق شرعيته فحسب، بل يقدم للمحتل أو صاحب السطوة صك براءة يمكّنه من الإمعان في ممارساته ويؤبدها. وجهتا النظر لديهما من الحجج ما لا تتسع له هذه المساحة.

إلى جانب ذلك، هناك أكثر من إشكالية محيّرة تستدعي التوقف عندها في هذه الانتخابات؛ أولاها الخشية من أن شيمة القوة الرئيسية في السلطة الحاكمة الإفادة من آليات الديمقراطية، ومنها الانتخابات، لتأمين غلبة تمكنها من الانقلاب عليها، وهي سمة يشترك فيها معظم الأحزاب العقائدية المتشددة التي لها فهمها الانتهازي للديمقراطية وتداول السلطة. صحيح أن لبنان له بعض الخصوصيات التي تصعّب هذه المهمة، وأبرزها الشقوق بين الطوائف ومصالحها، إنما الالتفاف عليها ليس بالأمر المستحيل وللبنانيين تجارب في الانقلاب على المؤسسات الديمقراطية وتعطيل الاستحقاقات من دون الحاجة إلى غلبة في البرلمان.

الإشكالية الثانية هي حماسة الدول الأجنبية والإقليمية وإصرارها على إجراء الانتخابات مع شبه يقينها أنها لن تغيّر المشهد السياسي وستبقى الغلبة لـ«حزب الله». هذه الدول لن تتردد لحظة واحدة بعد إعلان النتائج بالاعتراف بها والتعاون مع الفريق الذي ينبثق عنها وهو على لوائح إرهاب معظمها! كيف ستتخطى هذه المعضلة وأين تصبح مصداقيتها؟ يذكّرنا ذلك بحماسة الغرب للانتخابات الفلسطينية سنة 2006 على الرغم من تحذير غالبية المراقبين يومها من العواقب، وبالفعل فازت حركة «حماس» ورفض التعامل معها.

ثالثة الإشكاليات هو أن الأطراف والقوى المعارضة بأطيافها كافة مُجمعة على مفصلية الاستحقاق وتأثيره على مستقبل لبنان، لكنها تخوضه بممارسات يعوزها التماسك والصدقية. نبدأ بإحجامها عن إنشاء تحالفات قادرة على مواجهة قوى السلطة، فبقيت على تشرذمها بين معارضة تقليدية متنازعة ومتشظية حتى ضِمن البيت الواحد وعاجزة عن توحيد أطرافها، وقوى «انتفاضة 17 تشرين» التغييرية التي نبتت كالفطر منقسمة بين أولوية الإصلاح واقتلاع الفساد وأولوية استرجاع السيادة واستعادة الدولة، ويرفضون التعاون مع المعارضة التقليدية فدخلوا الانتخابات مشتتين. كيف يمكن لهذه المعارضة أن تحقق مكاسب ضد قوى السلطة المتماسكة ولو بالقوة وعامل المصالح والمنافع؟

الأشد غرابة هو رهان القوى المسيحية المعارضة الرئيسية على ما ستؤول إليه النتائج، في حماسة خطابية عصية على الفهم ومن دون تحصين رهاناتها بتحالفات لا ضمن الطائفة ولا مع الطوائف الأخرى لا سيما السنّة الموزعين على كتل وتيارات متنافسة. كيف ستواجه جماهيرها ومؤيديها إذا سقط الرهان على التغيير عبر صناديق الاقتراع؟ وما يصح على القوى المسيحية ينسحب على السقوط المدوّي لقوى التغيير، وما سيتبعه من إحباط سيصعب تجاوزه لدى المراهنين عليهم.

أولى قواعد الحملات الانتخابية هي عدم تكبير الحجر لأن الوعد ديْن وتعهد أخلاقي. ماذا لو لم تكن النتائج بقدر توقعات ورهانات المعارضة بشقيها؟ ماذا لو تمكنت قوى السلطة من الاحتفاظ بمكاسبها بل تعزيزها؟ ماذا لو تمكنت من الغالبية في البرلمان أو ثلثي المقاعد؟ أسئلة كثيرة كان ينبغي مواجهتها قبل الاندفاع إلى بيع بضاعة لم تُشترَ بعد، لأنه لو تحقق المتوقع وفازت سلطة «حزب الله»، سيفتح ذلك الطريق السريع أمام استكمال تغيير المعنى التأسيسي للبلاد وهويتها. الخشية من أن يكون يوم 15 مايو (أيار) 2022 هو 7 مايو 2008 سياسي يقتل الديمقراطية بأدواتها من دون الحاجة إلى القمصان السود. إنها فعلاً انتخابات تاريخية ولكن بالمعنى السلبي لأن نتائجها ستقضي من داخل المؤسسات الدستورية على لبنان الذي نعرفه.