مُنيت الممانعة في العام 2022 بخسارتين أساسيتين: الانتخابات النيابية التي أفقدتها أكثريتها وأضعفت حضورها في البيئات المسيحية والسنية والدرزية، وخروج الرئيس ميشال عون من القصر الجمهوري، وما بينهما أزمة مالية وضعت الممانعة أمام الحائط المسدود.
واصلت الممانعة مسلسل خساراتها الذي بدأ مع ثورة 17 تشرين في العام 2019 وتوّجت في انتخابات 2022 وعدم قدرتها على انتخاب رئيس للجمهورية من صفوفها، ما يعني انها مُنيت بانتكاستين: انتكاسة في الموقع النيابي مع خسارتها للأكثرية النيابية، وانتكاسة في الموقع الرئاسي مع انتهاء ولاية أحد أركان هذا التحالف، وما بين الانتكاستين عدم قدرتها على فرملة الانهيار المالي المتمادي، ما يعني حاجتها للفريق الآخر من أجل وقف هذا الانهيار الذي لا يمكن الخروج منه سوى بسلطات دستورية تحظى بثقة لبنانية ودولية، فيما أي رئيس للجمهورية يبدأ عهده بمعارضة واسعة لا تمنحه فترة سماح، يعني ان مصيره لن يختلف عن الذي سبقه.
فالمتبدِّل في المشهد السياسي او المتحوِّل يكمن في ثلاثة عناصر أساسية:
العنصر الأول يتعلّق بالبيئة الاستراتيجية لـ«حزب الله» التي منيت بخسائر وتراجعات كبرى بدءاً من عمقها الإيراني الذي لم تنطفئ الانتفاضة داخله في مؤشر إلى عمق الأزمة داخل النظام الإيراني، مرورا بخسارة طهران الليونة الأوروبية في التعامل معها بسبب انخراطها في الحرب الأوكرانية مع روسيا وانتقالها إلى موقف متشدِّد، وصولاً إلى أزماتها المفتوحة في الدول الخاضعة لسيطرتها وتحديداً سوريا التي تشهد أزمة مالية تهدِّد بانفجار اجتماعي وشيك، وليس انتهاءً بوضع الحزب في لبنان المكبّل ضمن حدّين: حدّ استمرار الشغور الرئاسي والانهيار او انتخاب رئيس ممانع تتواصل معه الأزمة، وحدّ انتخاب رئيس بمعايير إنقاذية وإصلاحية يسهر على إعادة الاعتبار لسياسات لبنان الداخلية والخارجية.
فلا يمكن لـ«حزب الله» المأزوم استراتيجياً بدءاً من عمقه الإيراني، وصولا إلى عمقه اللبناني وفقدانه للتحالفات الوطنية والسياسية، انتخاب رئيس للجمهورية من صفوفه، فضلاً عن ان الاستحقاق الرئاسي أخرجَ إلى الضوء الخلافات داخل هذا المحور بين الحزب من جهة، و«التيار الوطني الحر» من جهة أخرى، وإذا كان هذا الفريق مجتمعاً لا يملك النصف + 1 فكيف بالحري في ظل خلافه الرئاسي الذي ضاعف في خسارته؟ ولا مؤشرات إلى ان الهوة بين الطرفين قابلة للتقلُّص لسبب بسيط وهو ان هدف الحزب الاستراتيجي هو السيطرة على الجمهورية اللبنانية، فيما هدف التيار الاستراتيجي الإمساك برئاسة الجمهورية، وما لم يسلِّم الحزب للتيار بالرئاسة فلن تعود العلاقة إلى ما كانت عليه، وجاء لقاء النائب جبران باسيل بالنائب السابق سليمان فرنجية ليوجِّه رسالة قاسية للسيد حسن نصرالله مفادها انّ بإمكان باسيل عقد اي لقاء من دون الحاجة إلى عباءة أمين عام «حزب الله».
فأي مقاربة موضوعية للبيئة الاستراتيجية لـ»حزب الله» وخسائرها المتتالية في المنطقة ولبنان يجب ان تقود إلى استنتاج واضح بأنّ الحزب غير قادر على انتخاب رئيس من صفوفه، وما لم يدرك هذه الحقيقة الساطعة فإن الشغور سيستمر طويلا ويتواصل معه الانهيار ويفتح الباب أمام طروحات من قبيل مؤتمر دولي لإنهاء الأزمة اللبنانية، ويدرك الحزب ان مؤتمرا من هذا النوع هو أقرب من أي وقت مضى ليس فقط بسبب الواقع الانهياري في لبنان، إنما بفعل الخصومة الدولية مع إيران والتقاطع الأميركي والأوروبي والخليجي على الحدّ من دورها الإقليمي، ويجوز تشبيه تدخلها في الحرب الأوكرانية باجتياح الرئيس صدام حسين للكويت.
العنصر الثاني المتحوِّل في المشهد السياسي اللبناني يكمن في الأزمة المالية التي تحولت إلى ورقة ضغط كبرى على محور الممانعة الذي ليس باستطاعته حلّ الأزمة ما لم يتراجع عن إمساكه بمفاصل السلطة، إذ لو كان قادرا على معالجة الأزمة منفردا لما تفاقمت منذ الانهيار الكبير في العام 2019، الأمر الذي وضعه أمام خيارين لا ثالث لهما: الاستمرار في السلطة يعني استمرار الانهيار، التشارك في السلطة للخروج من الانهيار يعني فقدانه الإمساك الكامل بمفاصل القرار.
ويعلم «حزب الله» تمام العلم ان الخروج من الانهيار المالي يتطلّب مساعدة خليجية لن تأتي لسلطة تابعة لمحور الممانعة، وهذا ما تبلغته واشنطن وباريس بوضوح وصراحة من الرياض، كما يتطلّب ورشة إصلاحات داخلية شرطها ان تستعيد الدولة إمساكها بمفاصل القرار، وهذا يعني إنتاج سلطة مستقلة وغير خاضعة. وقد يقول قائل انّ الممانعة تتعايش مع الانهيار في كل الدول الخاضعة لنفوذها وبإمكانها التعايش مع الواقع الانهياري اللبناني إلى أمد مفتوح، وهذا غير صحيح، لأنّ الانهيار أفقدها أكثريتها النيابية وأخرجها من البيئات الطائفية غير الشيعية وضاعفَ الضغط عليها داخل بيئتها، واستمرار هذا الواقع يعني المزيد من الضغوط من كل الاتجاهات بما يمهِّد إما لثورة جديدة، وإما لوضع يد دولية على الأزمة اللبنانية.
فالأزمة المالية بهذا المعنى وضعت «حزب الله» في «الزاوية»، حيث ان استمرارها يؤدي إلى مزيد من إضعافه وانحسار شعبيته وتراجع نفوذه وارتفاع منسوب السخط من دوره، فيما معالجتها تؤدي بدورها إلى مزيد من إضعافه، ما يعني انه في وضعية خاسر-خاسر في الحالتين، لأن لا حلّ للأزمة المالية سوى من خلال خطوات توسِّع من دور الدولة وتحدّ من دور الدويلة، والأزمة المالية ليست مؤامرة كما يحاول البعض تصوير الأمور، إنما هي نتيجة طبيعية لممارسة سياسية فاسدة كانت ستؤدي عاجلا أم آجلا إلى الانهيار، فلا يمكن للبنان ان يصمد من دون مساعدات خليجية وفي ظل تحمّله وزر مشروع ممانع وتهريب مفتوح لنظام مُتداع في سوريا، فيما إيران تقف عاجزة عن مساعدة اي مكون من مكونات محوره الذي يذكِّر وضعه بنهايات السلطة العثمانية عندما وصفت بالرجل المريض.
العنصر الثالث المتبدِّل في المشهد السياسي يتمثّل برفض المعارضة وشريحة واسعة من اللبنانيين الدخول في أنصاف حلول وتسويات تؤدي بنتيجتها إلى منح الممانعة الغطاء لاستمرار إمساكها بمفاصل السلطة تحت عنوان «أم الصبي» و»مصلحة البلد»، لأن المصلحة العليا للبلد لم تعد تحتمل التعايش على حساب الدولة وشعبها، فإمّا انتخاب رئيس للجمهورية وسلطات دستورية لا تتقيّد سوى بالدستور والمصلحة اللبنانية، وإمّا ترك محور الممانعة يتخبّط في سياساته بما يفتح الباب أمام تطورات دراماتيكية للوضع تُشجِّع المجتمع الدولي على إنهاء الأزمة اللبنانية على غرار الظروف التي ولّدت اتفاق الطائف في العام 1989.
وقد استفاد محور الممانعة منذ العام 2005 من تنازلات لم تكن في محلها، بل شجّعته على مواصلة سياساته التي قادت الدولة إلى الفشل والعزلة والانهيار، وأثبتت التجربة ان التنازلات لهذا المحور لا تخدم المشروع اللبناني، إنما تخدم مشروعه الخاص، وبالتالي لا مصلحة إطلاقاً بمزيد من التنازلات، وهذه القناعة أصبحت راسخة لدى جميع مكونات المعارضة بأن لا تسوية على حساب دور الدولة السيادي والإصلاحي.
وانطلاقاً من كل ما تقدّم، فإن فريق الممانعة الذي يعاني ضعفاً في بيئته الاستراتيجية والعاجز عن مواجهة الأزمة المالية وغير القادر على جر المعارضة إلى تسوية معه بشروطه، أصبحَ في وضعية تراجعية وخسائره وإخافاقاته مرشحة لأن تزداد فصولاً في 2023، لأن لا تبدُّل في العناصر الاستراتيجية الثلاثة: ضعف البيئة الاستراتيجية لـ»حزب الله»، الأزمة المالية ورفض المعارضة للتسوية معه، وكل عنصر من هذه العناصر يشكل دينامية تصاعدية بحد ذاتها. وبالتالي، سيجد نفسه في نهاية المطاف أمام إمّا التنازل في محاولة منه لشراء الوقت بانتظار ظروف أفضل تسمح له بأن يستعيد إمساكه بزمام الأمور، وإمّا رفض التنازل خشية من ان يؤدي أي تنازل إلى مزيد من التنازلات، الأمر الذي سيقود حتماً إلى السقوط الكبير الذي يُدخل لبنان في مرحلة جديدة.