كانت «ضربة معلِّم» من منظومة السلطة تقريب موعد الانتخابات النيابية إلى آذار. فهي سمحت لحكومة الرئيس نجيب ميقاتي بالإيحاء للأميركيين والفرنسيين وقوى المعارضة الداخلية، بأنّ الحكومة تتجاوب مع طرح «الانتخابات المبكرة». لكن المنظومة، في الواقع، تُضيِّق المهلة الفاصلة عن الانتخابات- الضيِّقة أساساً- وتخبِّئ أهدافاً أخرى.
التكتيك الذي تستعدُّ قوى السلطة لاعتماده في ملف الانتخابات لم يتغيَّر: إما أن تنجح في الحفاظ على الغالبية القائمة والسلطة الناتجة عنها، وإما أن يتمَّ تأجيل الانتخابات حتى تسمح الظروف بتكريس الغلبة. وذرائع هذا التأجيل جاهزة دائماً، وعند الحاجة لا صعوبة في إيجادها.
هذا التكتيك ليس جديداً على قوى السلطة، وهي لطالما اعتمدته عند استحقاقات تأليف الحكومات والانتخابات الرئاسية. ولذلك، في السنوات الأخيرة، عاشت طويلاً حكومات تصريف الأعمال وتكرَّر الاعتذار عن التأليف مرتين، وهو أمر غير مسبوق (سعد الحريري ومصطفى أديب)، وسبق ذلك فراغ رئاسي هو الأول من نوعه ولمدة عامين.
ما يُراد في 2022 هو محو كل أثر لما جرى في العام 2005. في تقدير هذه القوى أنّ «انقلاباً» حصل آنذاك وأخرج لبنان من محورِ طهران- دمشق. ولكن، بعد حرب تموز 2006 ومواجهات7 أيار 2008، جاء اتفاق الدوحة ليعيد ترتيب التوازنات. وفي العام 2011، جاءت الضربة القاضية بإسقاط حكومة سعد الحريري التي كانت قائمة على توازنٍ هشّ وخَدّاع.
وبذلك، بدأ لبنان يعود إلى «المحور»، ولكن بأولوية نفوذ إيران بدلاً من سوريا، أي بنفوذ «حزب الله» لا بالنفوذ السوري على الأرض. وهذه المظلّة هي التي تحكم لبنان حالياً. وأياً تكن الضغوط الخارجية والداخلية، فإنّ هذه القوى لن تتنازل عن السلطة، وستواجه بكل الوسائل أي محاولة لتكرار «خطأ» 2005.
بدءاً من العام 2017، حاولت إدارة ترامب الجمهورية تكرار تجربة جورج بوش الإبن قبل 12 عاماً، ولكن بأسلوب الضغط والعقوبات المالية. وكانت انتفاضة 17 تشرين 2019 فرصة لاستعادة التوازن المفقود. لكن المواجهة انتهت لمصلحة القوى الحليفة لإيران.
وأما إدارة جو بايدن فلا تبدو مستعدة لخوض المغامرات مجدداً في الشرق الأوسط ولبنان. وعلى العكس، هي تبحث عن سبل للحفاظ على مصالحها، ومصالح إسرائيل، بالحدّ الأدنى من الأكلاف.
اليوم، تستعد هذه القوى لتركيب منظومة سلطوية متكاملة، تمسك من خلالها البلد على مدى 6 سنوات آتية: مجلس نيابي بغالبية مريحة، تنتج حكومة منسجمة معه، ثم تنتخب رئيساً للجمهورية من داخل الدائرة إيّاها. وتخطّط هذه التركيبة لتحصّن نفسها بتشريعات دستورية وقوانين وأعرافٍ تكرِّس نفوذها. وعلى الأرجح، تريد تحقيق ذلك من خلال «المؤتمر التأسيسي».
وتفترض هذه القوى أنّ المناخ الإقليمي والدولي سيبقى ملائماً لها، لأنّ محور طهران وحلفائها سيحتفظ بقوته الإقليمية. فهو لم يتنازل في الجولات التفاوضية مع الأميركيين، وأحبط محاولاتهم لإضعاف نفوذه الإقليمي. وأي صفقةٍ في الشرق الأوسط، حتى مع إسرائيل، لن تمرَّ من دون موافقة طهران.
ما يُراد تحقيقه في انتخابات 2022، النيابية والرئاسية، هو ضمان السلطة، وإلّا فإنّ المجلس الحالي يستمرّ حتى إشعار آخر. وتبرير ذلك سهل، سواء بذريعة الخلافات والتوترات السياسية أو الطائفية أو المذهبية، أو بذريعة الاهتراء المالي والإداري والنقمة الشعبية، أو بالتنازع حول مَن أولاً: الانتخابات النيابية (في الربيع) أم الرئاسية (في الخريف)؟ ولا مانع من تأجيل الاستحقاقين معاً إذا اقتضت المصلحة ذلك.
وفي الوسط السياسي تظهر اليوم بذور إشكالات قد تبرّر التأجيل: هل يتحول قانون النسبية والدائرة الواحدة عقدة جدّية في لحظة معينة؟ هل يتّسع الخلاف حول اقتراع المغتربين؟ وهل تتحوّل الأزمة المالية والعجز عن تأمين مستلزمات الاقتراع والبنزين والكهرباء والانترنت وانكفاء الموظفين عن العمل، عقبةً حقيقية تقطع الطريق عن الانتخابات؟
في التجارب، هذه القوى لا تتوانى عن تعطيل الاستحقاقات بأعذار واهية عندما تقتضي مصلحتها التعطيل. وفي المقابل، هي تقرّر إجراء الانتخابات «مسلوقة»، و»بمن حضر»، وبشوائب لا تُحصى، عندما تجد مصلحة في ذلك.
ولكن، من الواضح أنّ هذه القوى تقوم بعملية «تعقيم» استباقية للوسط السياسي. وهي تمارس الضغوط على الخصوم لوضعهم في الموقع الضعيف، فلا يكون لهم تأثير يُذكر في التركيبة السياسية المقبلة، سواء جرت الانتخابات أو تأجّلت. فيما قوى الاعتراض من خارج المنظومة السياسية، أي قوى 17 تشرين، لم تبلغ مستوى من التنسيق يسمح لها بالانتصار في المعارك. وهذا أمر يطمئن قوى السلطة.
وفوق ذلك، إنّ تقصير المهلة الباقية أمام الانتخابات إلى أقل من 6 أشهر، سيصعّب المهمة أمام المعارضة ويمنع قدرتها على تحقيق الخرق. وأما قوى السلطة فهي جاهزة بماكيناتها وبكل الوسائل وبدعم الأجهزة، وحتى بالقانون الانتخابي. وإذا لم تطرأ معطيات جديدة، فستكون الفرصة متاحة لها كي تكرّس الغلبة من جديد، ولسنوات أخرى.