IMLebanon

عن أي دولة أو دويلات تبحثون؟

 

 

لنفترض أن مواطناً مصاباً بمسّ من الجنون، رأى أن أحد القضاة لا يناسبه لا في متابعة ملفه ولا في الحكم عليه، فقرر أن يعترضه أمام منزله، أو في طريقه إلى عمله، أو عند مدخل مكتبه… لكن، هل حصل أن وصل مواطن كهذا إلى قلب قصر العدل وعبّر عن غضبه بالطريقة التي جرت أمس؟

 

لنضع جانباً كل التحقيقات الجارية، وكل دعاوى الردّ وكف اليد وخلافها، ولنسأل القضاة جميعاً، من رئيسهم الأول سهيل عبود إلى آخر متدرّج يناضل من أجل راتب لا يتجاوز 200 دولار: كيف تنظرون إلى دخول مجموعة من المواطنين إلى قصر العدل، ومعهم يافطات طول الواحدة منها ثلاثة أمتار، ومعهم حاجاتهم الكفيلة بـ«قبع» القاضي مباشرة وليس تهديداً، ومن ثم يقررّون أنهم هم القاضي، فيصدرون الحكم ويتولون التنفيذ وختم مكتب قاضٍ بالشمع الأحمر؟

أين كنت يا سهيل عبود؟ وأين كنت يا غسان عويدات؟ وأين كنتم يا كل قضاة لبنان ومحاميه ومناصري الدولة العادلة؟ أين كنتم أمس؟

هل تقولون لنا إن القضاء انتهى، فقط لأن هناك من يشكك في نزاهة ما يقوم به القاضي طارق البيطار أو حياديته أو قانونيته؟

هل تقولون لنا إن لبنان يقترب، أكثر فأكثر، من تدمير كل سلطاته، على تعاستها، وأن البديل الوحيد هو المجهول؟

في 17 تشرين الأول 2019، تمت «بهدلة» السلطة السياسية واعتبارها جهة غير مرغوب بوجودها في الحكم، وهو أمر مشروع. وبعد انفجار المرفأ، تمت «بهدلة» الإدارة العامة للدولة، وقلتم إنها فاسدة وغير مرغوب بها في الحكم. واليوم، تدمّرون القضاء دفاعاً عن قاض لا يرتاح نصف الشعب لعمله، وتقفون على رؤوس أصابعكم للنظر إلى آخر القوم وهم يتعرّضون لكل أنواع القهر، فماذا أنتم فاعلون؟

 

كيف يقبل سهيل عبود بغزوة العدلية أمس وكيف نصدق أنه وجميع القضاة يحمون سلطتهم ويريدون استقلالها وفرض هيبتها؟

 

 

قوى الأمن الداخلي في حالة ضعف ووهن غير مسبوق. لا سيارات تعمل، ولا قطع غيار موجودة، ولا طعام كاف، ولا لباس مجدّد… ووصل الأمر بوزير الداخلية السابق محمد فهمي إلى افتتاح صالون حلاقة في الوزارة لمساعدة الضباط والعناصر على تحسين هندامهم!

في الإدارة العامة، صار عرفاً أن لا يحضر الموظف إلا عشر ساعات في الأسبوع، إن حضر، ولا داعي لمطالبته لأن راتبه لا يكفيه بدل انتقال إلى العمل. وفي التعليم يوجد ربع جهد وربع إنتاج، ووحده الله يعلم أي جيل سيتخرّج في ظل هذه الإدارة؟ أما المستشفيات الحكومية فعادت لتكون مأوى الهاربين من نار القطاع الطبي الخاص ومجرد نزلٍ لا علاجات فيها.

من يبقى من الدولة؟ الجيش؟

يذهب قائد الجيش إلى الولايات المتحدة، لكنه هذه المرة لا يحمل معه لائحة بأسلحة يحتاجها لتعزيز قدراته وقوته الردعية في مواجهة الأخطار الخارجية، بل يصطحب ملفات الضباط والرتباء والجنود: أعدادهم وتصنيفهم العسكري وأنواع عملهم الميداني أو الإداري. ويعرض للأميركيين كيف أن مقاتلاً أو ضابطاً في قوات حزب الله يحصل على راتب يوازي على الأقل ثلاثة أضعاف راتب الجندي أو الضابط في الجيش، وأن المقاتل في حزب الله لا ينقصه الطعام ولا الطبابة والنقل، ولا الإسناد، ويقوم بتدريب كامل المواصفات، فيما يخدم العسكري في الجيش اللبناني نصف نهار، وممنوع على الشرطة العسكرية مساءلته عن أي عمل آخر يقوم به، سواء كسائق تاكسي أو عامل صيانة أو مدرس خصوصي، أو مرافق لهذه الشخصية أو تلك، أو حارساً في واحدة من الشركات الباقية على قيد الحياة.

عملياً، ذهب جوزيف عون ليطلب من الأميركيين دعماً مالياً مباشراً، وتمويلاً مفتوحاً بالدولار الطازج، بما يسمح له بمنح العسكريين، بحسب رتبهم ونوع عملهم، بين 100 و500 دولار شهرياً ليتمكنوا من القيام بمهامهم… وقائد الجيش الذي يعرف خطورة الأمر، قال للأميركيين، ولآخرين، بأن عليهم مساعدة لبنان في الحصول على قروض عاجلة من البنك الدولي لزيادة رواتب الأساتذة والقضاة والإداريين في القطاع العام ولو بمبالغ تقل عما يطلبه للعسكريين، وهو يقول علناً: إذا لم يحصل الجميع على الدعم، سنُتهم بأننا عملاء لمن يدفع لنا رواتبنا، وعندها لن نبقى جيشاً وطنياً يقبل به الجميع؟

 

قائد الجيش يطالب الأميركيين بتمويل مباشر لرواتب العسكريين مقارناً أحوال جنوده بمقاتلي المقاومة

 

 

ما هو المشروع هنا؟ هل هو الدولة الموازية التي تُترجم في بلد كلبنان على شكل دويلات موازية. هل يوجد بيننا من يفكّر حقاً بأن التقسيم ممكن، وأنه يمكن إعادة رسم الخرائط وتوزيع السكان وسنّ قوانين لهذه المجموعة أو تلك وفق ما يراه الزعيم المفدّى… ثم نكتشف في اليوم التالي، أن كل مزرعة تستجدي جيشاً من الخارج لحمايتها، ولو تطلب الأمر تدمير مزارع الآخرين؟

يحصل ذلك، فيما تباشر قوى السلطة، بكل أطيافها، معركة الانتخابات النيابية. ويبدأ موسم التسوّل باسم حاجات سكان الجبال للتدفئة، وحاجات المدارس والطلاب لموازنات النقل والتشغيل، وحاجات البلديات والإدارات لتمويل تشغيل المرافق العامة، وصولاً إلى ما هو أبعد من ذلك… حيث يخصص مرشحون كبار، أكانوا شخصيات أو قوى وأحزاب، بضعة ملايين من الدولارات لشراء كمية من الأصوات تثبت قوتهم الحالية أو تعزّزها حيث يجب. ولا ينافسهم في هذه العملية سوى ثوار السفارات الذين يتعاركون الآن على قيادة منصة تربط مصيرها بمجموعة التمويل الخارجية، وهذه المجموعة يقال لنا إنها عبارة عن لبنانيين يحبون بلدهم ويريدون التغيير، لكن الجميع يعرف أن الأمر ليس على هذا النحو.

وفوق كل ذلك، يشهد لبنان أكبر عملية تزلف وتذلل في تاريخه السياسي. لم يحصل أن فعل السياسيون مع سوريا أو مصر أو حتى أميركا وفرنسا ما يفعلونه اليوم مع السعودية. كل سياسي من الذين قادوا ثورة الأرز، وثورة الاستقلال الثاني، وثورة الشعب الفقير، وثورة الحريات والكرامة، وثورة تحرير لبنان من الوصاية السورية والاحتلال الإيراني، هؤلاء جميعاً، من سياسيين وإعلاميين وأكاديميين فنانين ومن لف لفهم، يركضون خلف متخلّف، بحسب الأطباء المحلفين، وينادون لنيل رضى مريض مهووس بالقتل والتسلّط على إخوته وأبناء عمومته وأهل ملته وأبناء بلده ومحيطه والجيران الأقربين والأبعدين، فقط لأن إعلامياً لبنانياً، صار وزيراً، قال رأيه في أن جرائم الدب الداشر في اليمن ليست سوى حرب عبثية… ليخرج علينا، أخيراً، القائد الجاهز لكل الثورات، وآخر الزعماء القبليين في لبنان، مطالباً بأن نعتذر من القاتل.

حقاً، نحن أمام معركة فاصلة بين لبنانين، وهي معركة قاسية، ستستمر لسنوات وربما لعقود، قبل أن يستفيق البعض من سبات ووهم، ويتعرف إلى حقيقة التاريخ الذي لم ولن يقف عند خاطر أحد.