لا تمتثل أي اشارة للخروج من المياه الآسنة التي تتخبط بها المنظومة السياسية، والجدار المرفوع بوجه اللبنانيين وما بينهم قد أصبح عصياًّ على بناته. لم تعد الخطب المذهبية التي امتهنها الوزير باسيل من حين لآخر قابلة لإحداث أي إختراق، كذلك هي حال سرديات المقاومة التي درج الأمين العام لحزب الله على استخدامها لإضفاء الثقة على قدرة طهران وحزب الله على امتلاك المخارج الإستثنائية. الفقر والجوع وطوابير الذل أمام محطات الوقود والصيدليات أحبطت كل السرديات. أضحى المواطن في لبنان إلى أي منطقة أو طائفة انتمى، مدركاً أنّ كلّ العناوين المرفوعة لم تكن سوى فيضٍ من أوهام دفع ثمنها من استقراره ومستقبله ومواطنيته. البنزين الإيراني الذي ربما يحجم العديد من اللبنانيين على التذكير به، التحق مؤخراً بكلّ البناءات الوهمية للإقتصاد الممانع، الذي اقتصرت تعبيراته على تصدير حبوب الكبتاغون الى الدول العربية للقضاء على آخر ما تبقّى من العلاقات الإقتصادية للبنان.وبالتوازي مع ذلك سُجلّت آخر معالم سقوط الدبلوماسية اللبنانية بزيارة إسماعيل هنيّة لبيروت ـــ هو الذي لم يكن لديه أيّة إطلالة إعلامية من أي عاصمة عربية ــ لوضع الرؤساء الثلاثة بتداعيات انتصار غزة. المغزى ليس في استخدام هنيّة لبيروت كمنصّة متاحة لكلّ عابر سبيل، بل في إحجام لبنان، هو الذي لا يزال مقحماً بتكليف شرعي في الصراع، عن بحث الموضوع مع جامعة الدول العربية أو مع جمهورية مصر العربية التي أدارت بكفاءة مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار.
الحراك الدولي الذي ظهر مؤخراً في الأروقة الدولية دفع بالأزمة اللبنانية مجدداً الى شرفة الإهتمام، وبالطبع ليس من قبيل الضرورة التي تتكىء عليها الطبقة السياسية اللبنانية في ممارسة إستئثارها وفسادها. لقاء الرئيسين الأميركي جو بايدن والروسي فلاديمير بوتين كان المقدّمة التي أطلقت دينامية دولية عبّر عنها لقاء وزير خارجية الولايات المتّحدة أنتوني بلينكن ونظيره الفرنسي لودريان مع وزير خارجية المملكة العربية السعودية فيصل بن فرحان على هامش إجتماع وزراء مجموعة العشرين في إيطاليا لبحث الأزمة اللبنانية، واستتبع ذلك بإجتماع وزير الخارجية الأميركي مع البابا فرنسيس قبل انعقاد إجتماع قادة الكنائس المسيحية في لبنان.
لقاء وزيريّ الخارجية الفرنسي والأميركي الذي سبقه تأكيد أميركي على دعم المبادرة الفرنسية،يؤكّد أنّ فرنسا أضحت مدركة أنّ أجندتها المعلنة التي حاولت ملاءمتها مع الصراعات الداخلية اللبنانية ليست مدخلاً قابلاً للنجاح، وإن التدخل الأميركي وإن بشكل غير مباشر يشكّل دافعاً معنوياً ومحفّزاً لطهران الساعية لترتيب موقعها في الأجندة الأميركية. وبهذا المعنى يشكّل الملف اللبناني أحد منصات تبادل الرسائل الباردة بين واشنطن وطهران، بصرف النظر عن تبلوّر حلول قريبة.هذا بالإضافة أنّ إشتراك وزير الخارجية السعودي في الإجتماع المذكور سيشكّل حافزاً إضافياً لكلّ من طهران والرياض بإضافة منصّة جديدة الى جانب منصّة بغداد التي انطلقت للحوار بينهما. ربما يندفع الجانب الإيراني للحوار ليقينه أنه سيؤسّس لانتزاع إعتراف بسيطرته على لبنان، فيما تعتقد المملكة السعودية أنّ اللقاء يشكّل فرصة لتثبيت الإستقرار في لبنان بضمانة دولية وهو مقدّمة لانحسار دور الميليشيات وعودة الدولة.
على المقلب الآخر،شكّل لقاء البابا فرنسيس برؤساء الكنائس المسيحية في لبنان الثمرة الأولى والصدى الدولي الأول للمواقف الصلبة التي صدرت عن البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، والتي أكدت على حياد لبنان الإيجابي وتمسكت بالدستور وبالدولة المدنية. يأتي لقاء وزير الخارجية الأميركي بلينكن بالبابا فرنسيس قبل ثلاثة أيام من الإجتماع الكنسي لتأكيد تلازم الدور الذي يؤديه الكرسي الرسولي في الحفاظ على التنوّع اللبناني مع المبادرات الدولية المعنيّة بالإستقرار، وبمعنى أدق إعطاء المبادرة الفاتيكانية مقوّمات المواجهة وربما الوقوف بوجه ما قد يذهب إليه بعض رؤساء الكنائس بالجنوح نحو تحالف الأقليات في المشرق وهو ما عانى منه البطريرك وعانت منه بكركي مراراً.
لا توحي المبادرات الدولية بتوفر مقاربات ناجعة للأزمة اللبنانية، ولكنها تؤكّد أنّ لبنان لن يكون بمنأى عن التسويّات التي يتمّ إنضاجها، وهو لا يزال مصنفاً كدولة ضمن المشهد الإقليمي وهذا يشكّل بحدّ ذاته معطى إيجابياً. لكن الجديد أنّ هذه الدولة الجديدة ستخضع لعملية صياغة جديدة لجهة الدور ومعايير وأطر الحوكمة الرشيدة،عملية مدفوعة بالعقوبات الأميركية والأوروبية التي أضحت من ثوابت الأدبيات الدولية المستخدمة مع لبنان.
يجمع كلّ المتدخلين بالشأن اللبناني، أوروبيون وأميركيون ومنظّمات دولية أنّ السلطة اللبنانية فقدت شرعيتها، وهذا ما يبرر اللامبالاة الدولية وتمرير الوقت بأقل الخسائر الممكنة لدى مقاربة الأزمة اللبنانية، كما يجمع هؤلاء أنّ الإنتخابات النيابية المقبلة هي المدخل الحقيقي والضروري لإنتاج منظومة سياسية تتمتع بشرعية جديدة. وما بين ثابتة الإهتمام الدولي بلبنان كجزء من مشهد إقليمي جديد،والثابت الزمني الذي يفصلنا عن الإنتخابات المقبلة بما تمثّله من حاجة لأي سلطة الى شرعية جديدة ، يقف لبنان على عتبة أشهر مصيرية قد تدفع بالكثير من المغامرين إلى خيارات غير محسوبة.