فيه الكثير من الترف حديث الانتخابات في لبنان. والكثير الموازي من اللعب الذي يجعل المنخرط فيه يفترض أنّه شأنه وحده وليس هواية عامة جامعة! وإنّه أذكى من غيره! وأشد فراسة من الساري في ليل صحراوي! وأكثر قدرة على تلقّف اللحظة وقطفها وضبّ جناها في خوابي الزمن لتعديل مساره ونتاجاته وحتمياته!
يهوى بعض اللبنانيين على ما يبدو، النقر على ألواح الثلج. والتغنّي بآليات آتية من النظم الديموقراطية، تنظّم تداول السلطة، وتدفع الى الأعلى شروط العمل السياسي العام ومتطلباته وطقوسه. وتقدم في المحصلة شيئاً من عدالة التمثيل طالما أنّ الحق مزدوج مبدئياً في الترشح والاقتراع.. سوى أن النقر على الثلج في بلاد «حارة» يشبه عدمه! تماماً مثل ذلك الجهد المبذول في شأن القانون الانتخابي، والذي لا يشبه شيئاً بقدر ما يشبه موروثات بيزنطيا!
كانت الانتخابات اللبنانية في زمن مضى تليق بصفتها الى حدّ محترم: حقيقية وتنافسية و«محليّة» وتعبّر عن الأحجام والأوزان في السياسة والمال والجاه والعلاقات العامة و«العائلات» العامة! وكانت برغم الشوائب المألوفة التي تختلط فيها (أساساً) الرشاوى بتدخل بعض الأجهزة الأمنية لصالح مرشح على آخر.. الخ، تنتج الى حدّ مقبول توزيعاً للسلطة تحت سقف هذه السلطة. وبما لا يكسر قيمها ودستورها وأعرافها وتقاليدها، ولا يسمح بإشاعة نَفَس انقلابي أكان ذلك بالمعنى العسكري (العربي المألوف!) أم بالمعنى السياسي عن طريق العمل الحزبي والشارع والنقابات والتحركات «الجماهيرية»!
في حدود هذه السلطة، التي كانت ولا تزال بالمناسبة نسبية وغير تامة! وفي ظل نظامها الذي كان ولا يزال بالمناسبة صفة وليس فعلاً! وضمن شروط الدستور الذي كان ولا يزال بالمناسبة مطّاطا بالممارسة! وحمّال أوجه في التفسير! و«منافساً» لمعطى لبناني فريد وخاص اسمه الأعراف!… تحت هذه المعطيات وغيرها، كان يمكن بكل بساطة التمتع بممارسة انتخابية فعليّة! بما تعني في أحد وجوهها الحاسمة، ترقب النتائج في كثير من الحالات، لمعرفة هوية الرابح!
يطول مقام المقارنة بين الأمس واليوم. لكنه يقصر أمام عناوين مستجدة تجعل من قصة الانتخابات بهرجة شكلية مُضافة، لا تقدّم ولا تؤخر،لا في «شكل» السلطة، ولا في مضمونها! ولا في سياستها العامة، ولا في حقيقة أنها «تجمّع إئتلافي لممثلي الطوائف»! وملتبسة الى حدود اشتمالها على «معارضة» من داخلها! وعلى كونها قادرة على إنتاج موقفين متعارضين ورسميين تماماً إزاء أي قضية كبيرة راهنة! مثل السلاح غير الشرعي! والسياسة الخارجية! «وقرار الحرب والسلم»..الخ!
.. يختصر استبدال صندوق الاقتراع بصندوق الذخائر، وازدواجية السلاح والسياسة الخارجية، والتأثير الطاغي لـِ«حزب الله» على الكبيرة والصغيرة، والشاردة والواردة، والتافهة والجديّة، وضمور مفهوم الدولة في الإجمال لصالح «دويلات» مكتومة ومركونة في الذوات الطائفية والمذهبية والانتمائية بقدر ما هي ظاهرة على الأرض (…) يختصر ذلك كله، جل المقارنة الانتخابية بين الأمس واليوم! بحيث يصير ضرباً من العبث (المضاف الى الترف البيزنطي إيّاه!) إفتراض أن الانتخابات «تقريريّة» أو «مصيرية» في حياة اللبنانيين ودولتهم وواقعهم السياسي والطائفي.. أو إنها طريق الى تداول السلطة وتقاسم مراكز النفوذ فيها، أو إنتاج عدالة تمثيلية ما! أو «طبقة سياسية نظيفة»! أو حالة «إصلاحية» ناضجة!
برغم ذلك، فإنّ الانتخابات ولو في الشكل، تبقى «مناسبة» في مكانها لإتمام الجهر الواضح، بأنّ لبنان (الراهن) العصيّ على الممارسة الديموقراطية المعقولة والمقبولة، عصيّ أيضاً على ثقافة الحزب الواحد! و«المرشد» الواحد! والقائد الواحد! وتنوّعه أكبر من جغرافيّته!.. وخطبه جلل الى حدّ أنّ سلبياته هي ذاتها إيجابياته!
.. التنافس على «وظيفة» حكومية ليس إنتخابات!.. والله أعلم!.