لا مفرّ أمام اللبنانيين من إبطال دعوات العودة إلى القبيلة
بعث رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في لقائه الأخير برئيس الحكومة نجيب ميقاتي برسالة واضحة وشديدة التأثير، في إشارته إلى أن «أسوأ ما واجهناه بعد سقوط النظام السابق هو محاولة استنساخ النظام الطائفي اللبناني وتطبيقه في العراق».
يحمل هذا الكلام أوجهاً عدة، لكنها تتقاطع عند رفض الكاظمي يما يمثّل عراقياً وبالدعم الدولي الذي يحيط به، رفضا قاطعا لكل ما شُيّع سابقا عن جعل اتفاق الطائف اللبناني الذي كرّس التقاسم الطائفي لمناصب الحكم، النموذج المحتمل والأكثر رواجا كبديل للنظام العراقي السابق، ومن ثم للنظام السوري.
لم يعد مكتوما لا محليا ولا عربيا ولا دوليا (ما خلا بعض الاستثناءات القليلة) ان إتفاق الطائف الذي جذّر الطائفية السياسية وزاد الإحتقان بين المذاهب، يكاد يضع رحاله نحو تقاعد مستحق، بالنظر إلى انه أثبت أنه لا يستقيم ما لم يكن له راع (سوري أو عربي) او أكثر، بدليل سلسلة الأزمات القاتلة، حُكماً ونظاماً، التي أنهكت لبنان وأجهضته منذ إبطال الوصاية السورية، وشظّت المؤسسات وأتت على ما تبقى من هيكل دولتي.
ذاكرة ميني- حرب الطيونة لا تزال طازجة وتملأ الفضاءات السياسية والميليشياوية والافتراضية
جعل الطائف الفدراليات المذهبية، أمرا واقعا ومنحها، بالممارسة المجتزأة، الشرعية السياسية والشعبية والدينية، وجعل الدولة العلمانية او المدنية عنوانا برّاقا غير قابل للتحقق بإرادة زعماء تلك الفدراليات. لا بل حرص الزعماء على مرار العقود الثالثة من عمر الطائف، على الإيغال في تشويه التطبيق وإجتزائه، وإلا كيف يفسّر هؤلاء، أكثر الناس تمسّكا بالإتفاق والوثيقة، الممارسة المجتزأة، وشطب بنود إصلاحية رئيسة فيه، في مقدمها اللامركزية الإدارية (التي تترابط حكما مع لامركزية مالية) التي تنضوي في سياقها مجموعة الإصلاحات السياسية. ومن اللازم إعادة التذكير بها بالنظر الى العمى السياسي الذي بات يتحكم بأداء زعماء الميليشيات.
فتحت بند الإصلاحات السياسية في وثيقة الوفاق الوطني، يندرج الآتي:
أ- اللامركزية الادارية.
1- الدولة اللبنانية دولة واحدة موحدة ذات سلطة مركزية قوية.
2- توسيع صلاحيات المحافظين والقائمقامين وتمثيل جميع إدارات الدولة في المناطق الادارية على أعلى مستوى ممكن تسهيلاً لخدمة المواطنين وتلبية لحاجاتهم محلياً.
3- اعادة النظر في التقسيم الاداري بما يؤمن الانصهار الوطني وضمن الحفاظ على العيش المشترك ووحدة الأرض والشعب والمؤسسات.
4- اعتماد اللامركزية الادارية الموسعة على مستوى الوحدات الادارية الصغرى (القضاء وما دون) عن طريق انتخاب مجلس لكل قضاء يرئسه القائمقام، تأميناً للمشاركة المحلية.
5- اعتماد خطة انمائية موحدة شاملة للبلاد قادرة على تطوير المناطق اللبنانية وتنميتها اقتصادياً واجتماعياً، وتعزيز موارد البلديات والبلديات الموحدة والاتحادات البلدية الإمكانات المالية اللازمة.
لم يجد زعماء الميليشيات في الثلاثين عاما الفائتة وقتا لو قليلا للمباشرة بهذه الإصلاحات السياسية. هم، بغرض طمس تطبيق اللامركزية الإدارية الموسّعة، ألهوا اللبنانيين بالمتفرعات والمآسي والملاهي، كمثل الحديث زورا عن توقهم الى الدولة المدنية، فيما تمنّعوا قصدا وتواطؤا عن اتخاذ أي خطوة، مهما كانت بسيطة، في إتجاه تلك الدولة. وذهبوا حد تخوين كل مطالب باللامركزية، على انه كريه ومقسّم ومتقوقع. وأحد من اللبنانيين لم ينسَ أن مشروع قانون الزواج المدني لمّا يزل حتى اليوم مدفونا في جوارير هؤلاء. فكيف لهم أن يخطوا صوب المشروع الأكبر الذي لو طُبّق لما إنتكس النظام ولما إحتُضرت الدولة وبنوها؟
راهناً، ثمة فرصة لجعل الإنتخابات النيابية المقبلة منصة لإشهار الأبرار من السياسيين، وهم قلة، مشروعا تواقا نحو الدولة العلمانية، يطرح فكرة إلغاء الطائفية بكل أشكالها، رئاسية أم سياسية ام إدارية، بل حتى نيابية، على ان تكون إنتخابات ربيع 2022 إستفتاء على المشروع السياسي الجديد المتحرر من كل العقد والتعقيدات والتابوهات، من الطائف حتى الطائفية.
تُدرس تلك الأفكار بعناية. وليس مستبعدا أن تتأطر قريبا في سياق مشروع سياسي يُقدّم الى العامّة على انه نموذج للبنان المستقبل.
لا يحجب هذا الحماس أن ثمة عوائق وموانع كثيرة أمام هكذا طرح، أقربها من زعماء الأحزاب – الميليشيا، الذي لو صار لهم تأبيد مشروعهم السلطوي القائم منذ العام 1990، لما تلكأوا أو تأخروا. هم سطوا على خيرات الدولة واللبنانيين، وحصدوا لهم ولأزلامهم حصاد عمر، بل عمرَين وأعمار. لذا مانعوا مرارا التغيير والإصلاح، ولن يتوانوا عن المزيد حتى لو كان الثمن افتعالها حربا أهلية جديدة، وخطوط تماس تكرّس تقسيم اللبنانيين، قبائل ومذاهب وتقوقعا ولبنانات.
ذاكرة ميني – حرب الطيونة لا تزال طازجة. والتهديد بمثلها كثير، يملأ الفضاءات السياسية والميليشيوية والافتراضية.
لا مفرّ أمام الخلّص والأبرار من السياسيين، من إبطال الدعوات الى العودة الى القبيلة، عبر الإقدام صوب لبنان الجديد، دولة لاطائفية، رئيسا ومجلسا وحكومة، بدءا وبالتأكيد ليس نهاية.