كلما اقتربت الانتخابات أو حمي وطيسها، ينبري بعض أيتام السلطة وورثة الزعامات المحلية للإعلان أن اللبنانيين يعيشون في نقص معيب لغياب ممثلي “البيوتات” عن المشهد السياسي، أو لأفول نجم مَن كان يُمنّي النفس بالكرسي وعزة التربع في موقع الآباء والأجداد. و”البيوتات السياسية” تعبيرٌ ما كان ليدخل معجم الكلام لولا أن بدلاء الإقطاع وأصحاب الجاه أتوا عموماً على شاكلة ميليشيات ناهبة وأحزاب تبيع الأثاث الوطني الثمين في أسواق الرثاثة المحلية والإقليمية.
ولعل أكثر ما يتغنى به أبناء “البيوتات” تلك المَضافات التي كانت قائمة لجذب المحتاجين، ما يعني عملياً شراء ولاء في مقابل فتات طعام أو خدمات، وقانونياً صرفَ نفوذ في نظام ما قبل الدولة الذي يحوِّل اصحاب الحاجة شحادين على أبواب القصور أو “البيوتات” المفتوحة والمسوَّرة بـ”قبضايات” جاهزين للموت في سبيل الشيوخ والبكوات أو “شُطَّار” استغلوا فساد دول لجمع ثروات لا تلتهمها النيران.
المؤلم أن ما شكونا منه قبل “الجمهورية الثانية” مطالبين بتغييره باتجاه نظام أحزاب، وتنافس برامج، وتكريس علاقة المواطنين الأفراد بدولة القانون على قدم المساواة، كان أرحم مما أنجبته سلطات ما بعد “الطائف” التي مأسَست الزبائنية معتبرة مقدِّرات الدولة حَرْثاً حلالاً لمافياتها. وفيما كان أسلوب “البيوتات” قائماً على “كول وطعمي” وتبادل التنفيعات من غير تطاول على المال العام إلا بحياء، صار أسلوب المافيا جرفَ الموارد، وتجريف المنابع، والمحاصصة الوقحة في الصفقات والتعيينات، ناهيك عن إدخال بِدع “التكليف” الديني على الانتخابات وتسعير الطائفية والمذهبية بلا رفة جفن أو خشية من حرام.
أما أسخف ما يطالعنا به ورثة “البيوتات” فهو خطاب انتخابات ومشروع انقاذ وتغيير، عنوانه ومتنه وحواشيه التخويف من “إقفال البيت”، وكأن المورِّث كان من نسل أباطرة الرومان أو قياصرة روسيا أو أن مدرسته الفلسفية أحدثت انعطافة غير مسبوقة في فهم الكون، مسجِّلةً قطيعة معرفية كبرى مع كل ما سبقها من مفاهيم وفلسفات.
لا اعتراض على ورثة “بيوتات” حين يكون الراغب في العمل العام مؤهلاً للدور ممتلكاً حداً يمكنه من مجاراة نواب محترمين وشخصيات قادرة على إحداث الفرق أو مميزاً في مجال التشريع ليترك بصمة في مجلس النواب، أما أن يتكئ على تاريخ ممهور برشوة الناخبين وبمخالفة القانون وحماية المخالفين ومنع تسليم قاتل الى السلطات وتهريبه عبر الحدود لينجو من العقاب، فذلك لا يدل إلا على تخلف الأتباع والمصفقين وعلى تدني الوعي لدى الناس. إنها حالة مرعبة من “شِيم” أهل “الوفاء”!