يغرَق اللبنانيون في تفاصيل اللوائح الانتخابية وتركيباتها العجيبة الغريبة في ظلّ أوّل تطبيق للقانون الانتخابي الجديد.
النزاعات الحادّة الحاصلة بدت خاليةً من أيّ محتوى أو مضمون سياسي، فيما الاهتمام منصَبّ على تأمين المصالح الذاتية وفقَ مبدأ تكبير الأحجام بهدف الاستيلاء لاحقاً على حصّةٍ حكومية وازنة وحقائبَ وزارية دسمة.
لكنّ هذا لا يعني أنّ السياسة غائبة كلّياً، فرئيسُ الحكومة سعد الحريري والذي كان قد أوحى بعد عودته من السعوية أنّه سينتهج خطةً انتخابية جديدة، عاد ونفّذ انعطافةً سريعة أعادته إلى ما قبل رحلته إلى الرياض، وهو ما أدّى إلى ترك «القوات اللبنانية» بعيدةً من لوائح تيار «المستقبل».
وللحريري تبريرُه السياسي لسلوكه هذا، فالمسؤولون السعوديون تركوا له حرّية الحركة السياسية بعدما طلبَ منهم تفهُّم خطتِه السياسية لمواجهة «حزب الله» والقاضية بسحبِ «التيار الوطني الحر» الى الوسط، وأنّ الضغط عليه لاحتضان «القوات اللبنانية» سيُحبِط مشروعه ويُبقي رئيسَ الجمهورية العماد ميشال عون قريباً من «حزب الله». ووفق نظرية الحريري فإنّ استمالة «التيار الوطني الحر» ستحجب الغالبية النيابية عن «حزب الله» و«حاسبوني على النتيجة».
على الرغم من ذلك، هنالك من يرى في كلام الحريري غطاءً لمشروع أكثر توافقاً، وهو التفاهم مع «التيار الوطني الحر» على اقتسام السلطة لا تثبيتِ ركائز توازن فعلي انسجاماً مع التوازنات الإقليمية والنزاع الدائر حولها، و»القوات اللبنانية» أقرب إلى هذه النظرة.
ويستند أصحاب هذه النظرية الى مسألتين: الأولى، التواصل الموجود بين «المستقبل» و«حزب الله» والذي يؤمّن تعاوناً بدرجةٍ لا بأس بها، ولو بنحو غير ظاهر. والثانية الارتباط الحاصل حول العناوين الاستراتيجية بين «التيار الوطني الحر» و«حزب الله» والذي لا يبدو أنّه قابلٌ للكسر حتى لو ظهَرت خلافات حول بعض الملفّات الداخلية.
في المقابل لا يبدو «حزب الله» قلِقاً، ولو أنه دخل الاستحقاقَ النيابي وفق حساباته السياسية، ما يَجعله يتميّز عن غيره في طريقة مقاربته لحساباته الانتخابية. فهو يعمل على تأمين برنامجٍ من نقاط عدة. الأولوية المطلقة عنده هي في تأمين كلّ المقاعد الشيعية.
وهذا يتطلّب رفعَ نسبةِ المشاركة الشيعية في الاقتراع الى الحد الأقصى، وهو ما دفعَ بالأمين العام لـ»حزب الله» السيّد حسن نصرالله الى القول إنه مستعدّ لزيارة شوارع بعلبك وإحيائها، وقد يقول غداً إنّ كلّ مرشّح هو حسن نصرالله من أجلِ ضمان مشاركةٍ قصوى وإقفال الحصّة الشيعية النيابية بكاملها.
ويبقى مقعد جبَيل الشيعي وهو ما قصَده الأمين العام لتيار «المستقبل» أحمد الحريري حين اعتبَر أنّ خرق مقعدٍ شيعي يساوي كلَّ مقاعد المجلس النيابي.
أمّا النقطة الثانية في برنامج أولويات «حزب الله» الانتخابي فهي درسُ كلّ مقعدٍ في كل دائرة لتأمين وصول أكبرِ مقدار ممكن من حلفاء الحزب من كلّ الطوائف.
وصحيح أنّ الحزب يحتسب لتثبيتِ توازنات نيابية جديدة، لكنّه يدرك أنّ ميزان الاكثرية العددية في لبنان لا وجود له، ونتائجُ انتخابات عامَي 2005 و2009 خيرُ دليل إلى ذلك، فالقرارات العادية في لبنان تحتاج الى التوافق، فكيف إذاً بالخيارات الأساسية والكبرى، وهكذا عندما تأمَّنَ التوافق السياسي تمّ إنجاز الموازنة خلال فترةٍ زمنية قصيرة جداً، فيما كان ذلك مستحيلاً في السابق. كذلك فإنّ قانون الانتخابات النيابية لم يبصِر النور إلّا بعد تأمين التوافق حوله. والجميع يدرك أنّ الإخلال بالتوافق يؤدّي إلى هزِّ الاستقرار في لبنان، وهذا ما لا يريده أيُّ طرف أو حتى جهة خارجية.
وفق هذا المبدأ جرى إتمام تسويةِ وصول عون إلى قصر بعبدا، وعلى هذا الاساس تمّ تشكيل الحكومة. لكن ثمّة من يسعى الى «وظيفة» سياسية للمجلس النيابي المقبل. هنالك من يُراهن على ضغطٍ خارجي يلاقيه تحرّكٌ لبناني داخلي بغية إنتاجِ صورةٍ سياسية جديدة في لبنان وتوجيهِ لكمةٍ سياسية لـ»حزب الله».
صحيح أنّ مؤتمر روما الذي عقِد بهدف دعمِ الجيش اللبناني لم يأتِ بالنتائج المرجوّة وبتحقيق الآمال التي علّقها لبنان عليه، لكنْ ثمّة إشارتان أساسيتان لا بدّ من التوقّف عندهما:
الإشارة الأولى، تتلخّص بتأمين مشاركة دولية واسعة، بما فيها مشاركة الدول الخليجية التي كانت تتحفّظ في البداية عن الحضور. لكنّ الجانب الاميركي نجَح في تليين الموقف الخليجي، ولو أنه اقتصَر على الحضور من دونِ المشاركة في تقديم الدعم. على رغم ذلك فإنّ الرمزية التي حملها هذا الحضور الدولي تعني أنّ الغطاء الدولي ما يزال مؤمَّناً وبقوّة للبنان، وهو ما يَدحض مجدّداً كلَّ كلامٍ أو تهويل بحرب إسرائيلية قريبة.
والإشارة الثانية والقاضية بطلبِ البدء بمناقشة الاستراتيجية الدفاعية للبنان، هو ما كانت السفيرة الاميركية في لبنان قد أبلغَته مسبقاً إلى المسؤولين اللبنانيين الكبار.
والواضح أنّ مهمّة «مؤتمر روما» تتلخّص بالتأكيد بأنّ المظلة الدولية موجودة وباقية فوق لبنان، لكنّ المطلوب الضغط على «حزب الله» ووضعُ قيود على حضوره العسكري من خلال الشرعية اللبنانية. وصحيح أنّ الحوار حول الاستراتيجية الدفاعية سيبدأ مشواره بعد الانتخابات النيابية، لكنّ هذا الطريق سيكون طويلاً وسيكون الشرط الاساسي هو التوافق الكامل، خصوصاً أنّ رئيس الجمهورية سيلعب دورَه التوفيقي ويسعى لتقريب وجهات النظر.
ولكن هنالك من يعتقد في الخارج أنّ التطورات الجاري تحضيرها للمنطقة ستساعد في إرساء مناخٍ جديد في لبنان يجري استثماره في إنتاج استراتيجية دفاعية في وقتٍ ليس بطويل.
فإسرائيل المنشرحة للتعيينات الجديدة في الإدارة الاميركية والتي تتوافق وتنسجم مع السلوك الهجومي للرئيس الاميركي، تتحدث عن ضربة أميركية سيجري تنفيذها ضد سوريا قبل أيار المقبل وهو موعد لقاء الرئيسين الاميركي والكوري الشمالي، وبالتالي فهو يريد هذه الضربة قبل هذا اللقاء للدخول الى مفاوضاته من موقع القوي.
وخلال هذه المدة سيتّجه وزير الخارجية الاميركية المقبل مايك بومبيو إلى طرحِ تعديلات على الاتفاق النووي مع توقّع أن لا يؤدي الى النتيجة التي تصبو إليها إدارة ترامب.
لكنّ واشنطن ستعمل على تعزيز نشاطها الاستخباري والسعي إلى محاصرة حلفاء إيران وتكثيف الضغط الديبلوماسي في الإطار عينه. وتمّ تحديد ثلاث ساحات للتنفيذ وهي اليمن وسوريا ولبنان.
ووفق هذه الصورة الكبيرة يمكن العودة إلى مقاربة الاستحقاق النيابي. ذلك أنّ هنالك من يُراهن على تحضير أدوات الضغط الداخلي تحت سقفِ الرعاية الدولية.
وهنالك من يحتسب إمكانية إعادةِ توزيع التوازنات النيابية، وهو رهانٌ محفوف بالمخاطر. فيما رئيس الجمهورية يستعدّ للَملمة نتائج الانتخابات النيابية واستعادةِ زمام الإمساك وتوجيه الدفّة من خلال دورٍ توفيقي والسعيِ إلى عزلِ لبنان عن التطورات المرتقبة على الساحة الإقليمية.