حالة التعاطف الكبيرة مع حملات الاحتجاج على السلطة الفاسدة، لا يمكن حصرها في سياق سياسي أو مناطقي أو حتى طائفي. كان جلياً وجميلاً التنوع الطبيعي الذي شكل آلاف الناس الذين نزلوا إلى وسط بيروت. وكان جلياً وجميلاً أيضاً، القلق الذي انتاب زعران الطبقة الطائفية المقيتة، فجعلهم يسرعون في ترتيب صفقات ما بقي من كعكة البلد، ويحذرون الناس من النار التي تأكل كل شيء إن أصروا على الاحتجاج. لكن الأكثر وضوحاً وجمالاً، هو الدرس المنطقي الذي يعطيه الشارع لمن يرغب، بأن القدرة على الاحتمال محدودة، ولو استمرت لسنين، وإمكانية التغيير جدية، ولو كانت تنتظر من ينظمها.
كل زائر عربي أو أجنبي للبنان، يسأل باستغراب: كيف لكم أن تتحملوا هذا القرف؟ كيف لكم أن تنفقوا هذا الكم الهائل من الجهد والدماء والمال، دون أن تنجحوا في العيش بحد أدنى من الأمان الاجتماعي؟ كيف لكم أن تلعنوا كل شيء في أحاديثكم، ثم تغفوا آخر الليل على طريقة النعام؟
في حسابات دقيقة، تظهر علامات تثير القلق من الذين يرفعون فجأة شعارات التغيير. وفي حسابات منطقية، يجب الحذر، بقوة، ودون وجل أو خجل أو إبطاء، من هوية كل من أعدته منظمة دولية تمولها الاستخبارات الأميركية أو الغربية، وفخخته ثم أرسلته إلينا، على شكل «مناضل»، ومعه ورقة «إثبات حال» موقعة من سفير دولة كبرى. وهو يريد أن يقول للناس، من منهم يصلح لأن يكون متظاهراً، ومن منهم يصلح لأن يبقى مشاهداً من منزله، ومن منهم يصلح ليكون هتافاً، ومن يرمي وردة أو حجراً على دركي أو جندي.
حزب الله والتيار الوطني والشيوعيون
والعلمانيون أمام استحقاق تغيير يمنع الانفجار
وفي الحسابات الدقيقة، يجب إظهار القلق، من الذي يريد أخذ الناس نحو احتجاج موضعي، حتى ولو كان بحجم ملف النفايات. وكأن المشكلة في وزير أو نائب أو إدارة عامة أو حتى شركة خاصة. هؤلاء يريدون لنا أن نقتنع بأن استقالة هذا أو ذاك، ستعالج الأمر. لأن بعضهم يعتقد أن الإتيان بهذا أو ذاك محل الذي يستقيل، سيفي بالغرض. وهذا القلق أساسه أن من يعتقد بإمكانية التحرك ضد سلطة، من دون رفع شعار سياسي واضح، سيكون بمقدوره الحصول على تفويض الناس، إلا إذا كان بعض الانتهازيين، من منتجات «م. م. م.» (منظمات المجتمع المدني)، يرون أنه لا داعي لتفويض فعلي من الناس، وأنه يكفي اختيار عينة من بضع مئات، معطوفاً على تغطية إعلامية (مشكوك في أهداف من يقودها)، واستحسان مئات أو قل آلاف الناشطين الافتراضيين، ثم يتوج برسالة نصية من دبلوماسي غربي، حتى يكون بمقدوره النطق باسم الناس والذهاب بعدها نحو صفقة.
هذه بلاد تتنفس سياسة. وهذا شعب يتنفس سياسة. وعندما يحتج الناس على قضايا اجتماعية ومعيشية، فهم يمارسون فعل السياسة بامتياز، ومن يخشى أن يكون خطيبه شربل نحاس أو حنا غريب، ويخجل أن يكون نجاح واكيم بين المتظاهرين، فهو بالتأكيد، من خارج العصر اللبناني. وهو بالتأكيد، واحد من أولئك الذين سبق أن رأيناهم، في لبنان عام 2005، أو في مصر وسوريا وليبيا وتونس الـ2011، هؤلاء الذين استغلوا ضيق الناس، فتصرفوا بمراهقة وطفولية، إن لم نقل أكثر، فكان ما كان.
حسناً، كل هذا مفهوم، لكن، هل علينا الاكتفاء بالتوصيف، حتى نكون حذرين إزاء أي خطوة؟ أو مشككين في نية كل متظاهر؟ أو متفهمين لسلوك سلطة القهر العفنة؟
بالتأكيد لا، بل من المحرم نفي الصفة النضالية عن غالبية ساحقة للمشاركين في هذه التحركات. بمعزل عن ألوانهم وشكل ثيابهم، وطريقة تعبير، ونوع صراخهم. وأكثر من ذلك، من الحرام إعفاء السلطة، بكل من يشارك في مؤسساتها، من مسؤولية الصمت عما يجري.
في لبنان اليوم، قوى نافذة، مسؤولية منذ ربع قرن عن مأساة البلاد. وهي عناصر الحقبة الحريرية. لكن في لبنان اليوم، قوى نافذة، هي خارج هذه الفرقة، وهي غير مستفيدة من هذه اللعبة، وجمهورها يدفع الثمن مضاعفاً، مرة بسبب خياره السياسي، ومرة أخرى بسبب ممارسات هذه السلطة. وهذه القوى، لها اسم، والأحرف الأولى هي: حزب الله والتيار الوطني الحر، والحزب الشيوعي وشخصيات وتجمعات ناصرية وعلمانية. وهي معنية بأن تعد نفسها لمواجهة السؤال الشعبي الأول: ماذا يمكننا القيام به، لتصحيح الأخطاء، ولمنع الوقوع في فخ الربيع الأميركي المتجدد؟
منطق الأمور يقول إن التسوية مع الفاسدين ثمنها عملية اقتطاع على حساب كل الدولة، وبعدما جرى إفراغ الخزينة العامة للدولة والمؤسسات العامة، ها هم اليوم، ينقضون على ما بقي من أموال بلديات تعود للناس، لأجل سرقتها باسم كنس النفايات قبل إعادة طمرها بين منازل المواطنين. وإن التسوية مع هؤلاء تعني الاستسلام لواقع سوف يدفع الناس نحو الجدار الأخير، حيث لا يبقى في البلاد شيء يقيه شر الانفجار الكبير.
مرة أخرى، ولأن القضية سياسية بامتياز، فلا سبيل، سوى لجوء هذه القوى إلى الاستقالة من المؤسسات الرسمية، ضمن برنامج يهدف، إلى جعل الأولوية المطلقة لما بقي من الدولة، وتنظيم انتخابات نيابية عاجلة، وفق القانون النسبي، بغية إنتاج مؤسسات سلطة جديدة. وكل كلام آخر، لا يصلح حتى كمسكنات!