لن يطول الوقتّ، ليدخل لبنان في زمن الإنتخابات النيابية، وكل الأطراف السياسيّة بدأت تعدّ عدّتها التحضيرية استعداداً لخوض هذا الاستحقاق.
الأجواء المرتبطة بهذا الإستحقاق تقاربه بكلام كبير يقدّم الانتخابات النيابيّة المحدّدة في أيار المقبل، على أنّها مصيرية، ومحطة انتقامية من الطبقة الحاكمة وفرصة لتغيير جذري، يذهب بوجوه السلطة الحالية التي عاثت في البلد تخريباً وتفليساً وتسببت في انهياره، وتأتي بوجوه جديدة تبني سلطة جديدة تلبّي ما هدف اليه حراك الغاضبين في 17 تشرين 2019.
ولكن، في موازاة هذا الكلام الكبير، يبرز سؤال أكبر: هل أنّ هذا التغيير ممكن؟ وإذا كان التوجّه الى هذا التغيير حقيقياً وصادقاً وجدّياً، فكيف سيتمّ، وعلى أساس أيّ قانون انتخابي؟
من على منابر السياسة يتطاير كلام كثير في كلّ اتجاه، يدغدغ مشاعر شرائح واسعة من اللبنانيين ويحكي عن يوم الحساب الآتي، ويوحي بأنّ هذا التغيير، او بمعنى أدق، الانقلاب الحقيقي على الطبقة الحاكمة موعده في أيار المقبل، وربّما قبل ذلك، إن جرى تقديم موعد إجراء الانتخابات إلى شهر آذار لسبب رمضاني. ويتقاطع هذا الكلام مع حماسة المجتمع الدولي بكلّ الوانه لاستحقاق التغيير، وقد جنّد كلّ طاقاته وادواته الديبلوماسية لكي «تَبْرُم» على المراجع والمستويات السياسية والرسمية والروحية، وتحث على إجراء الانتخابات في موعدها، ومحاذرة تأجيلها او تعطيلها. فلدى المجتمع الدولي كما يُنقل من غرفه، قناعة بأنّ انتخابات ايار ستفرز واقعاً نيابياً جدّياً واكثرية سياسية جديدة، على أنقاض الحالة الشاذة التي تحكم لبنان حالياً، هكذا يقولون!
ولكن، هل لهذا الكلام ترجمته على أرض الواقع؟
لعلّ جولة استطلاعية بسيطة على المشهد السياسي والنيابي، تظهر أنّ كل هذا الكلام السياسي في مكان والواقع في مكان آخر. فالتغيير المنشود يوجب استئصالاً جذرياً للسبب الذي جاء بالسلطة المشكو منها. أي القانون الانتخابي النافذ حالياً.
يقود ذلك إلى التأكيد على أنّ كلّ كلام عن التغيير، ويتجاهل أصل العلّة المتمثلة بالقانون الحالي، هو كلام فارغ لا قيمة له على الإطلاق، والتجربة السابقة مع هذا القانون في انتخابات العام 2018، حيث أنّه أنتج السلطة القائمة، وإنْ تمّ اعتماده في انتخابات أيار المقبلة سيعيد إنتاج السلطة ذاتها. فلا نغشّ النّاس بحديث عن تغيير في ظلّ هذا القانون.
المريب في دعوات بعض المقتنعين، بأنّ التغيير آتٍ حتماً في انتخابات أيار، انّها مبنية على التمسّك بالقانون الانتخابي النافذ حاليّاً، مع انّها تدرك أنّ هذا القانون شكّل في انتخابات العام 2018 أكبر فضيحة انتخابية في تاريخ لبنان، لمجموعة اسباب:
– أولاً، أنّه جاء مكبّلاً بلهاتٍ سياسي وطائفي ومذهبي مسعور لتفصيله على محاصصة تؤمّن استمراريّة قوى سياسية معيّنة، وتضمن لها نفوذها وحجمها السياسي لا أكثر.
– ثانياً، أنّه لم يؤسّس إلى إصلاح النظام السياسي، وجاء مخالفاً لأبسط حقوق الانسان، حيث لم يراع أيًّا من مبادئ تحقيق التمثيل الصحيح لكلّ فئات الشعب اللبناني وأجياله، وترسيخ مبدأ العدالة والمساواة الكاملة بين اللبنانيين، وإخراجهم من أسر الطائفية والعصبيات العمياء، والعبور بهم الى المكان الذي ينادي به الطامحون بصدق إلى التغيير، أي الى الدولة الحديثة التي يشعر فيها المواطن اللبناني بأنّه ينتمي حقيقة الى الوطن.
– ثالثاً، انّه كان أسوأ القوانين الانتخابية، حيث قام على مضمون مشوّه اساسه الصوت التفضيلي الواحد، مع نسبية متخلّفة في بعض الدوائر.
– رابعاً، عزّز الطائفية والمذهبية. وحتى المناطقيّة.
– خامساً، حرم الشباب اللبناني والمرأة من التمثيل الصحيح.
– سادساً، شوّه مبدأ النسبيّة كمعيار للتمثيل الحقيقي والصحيح.
– سابعاً، قسّم لبنان الى 15 دائرة انتخابية من دون معايير علمية، بل بمعايير سياسيّة محاصصاتية.
– ثامناً، حوّل المنافسة الى منافسة بين المرشّحين ضمن اللائحة ذاتها، وفتح باب الرشوة وشراء الأصوات على مصراعيه، من خلال الصوت التفضيلي الواحد.
– تاسعاً، اعتمد الشيء وعكسه في آن معاً، بحيث أجاز الاقتراع للائحة، وعاد وحصره بصوت تفضيلي لمرشح في دائرته الصغيرة.
– عاشراً، أدّى الى نتائج مشينة لا يقبلها عقل، ضمن اللائحة الواحدة، حيث خسّر مرشحين نالوا آلاف الأصوات وربّح مرشحين نالوا أقل من مئة صوت؟!
فأيّ تغيير يُرتجى مع هذا القانون. وأيّ «يوم حساب» يحكون عنه في ظل هذا القانون؟ وكيف سيتمّ هذا التغيير طالما انّ الراغبين فيه كلّ يغني على القانون الذي يريده؟ فثمة من يرى التغيير عبر قانون انتخابي يقوم على اعتماد النسبية على مستوى لبنان دائرة واحدة، مع تخفيض سن الاقتراع الى 18 سنة. وثمة من يراه باعتماد النسبيّة مع تخفيض سنّ الاقتراع في المحافظات الخمس التاريخية. وهذا قد يلبّي ما طالب به حراكيو 17 تشرين.
على أنّ أكثر ما يدفع إلى التساؤل، وطرح اكثر من علامة استفهام وتشكيك، هو انّ ثمّة قوى سياسيّة وازنة في الشارع المسيحي، حملت لواء الثوار، وترفع لواء التغيير وتتوعّد بأنّ انتخابات ايار ستقصف عمر السلطة الحاكمة، وستنتج اكثرية جديدة، ومع ذلك تلتقي مع خصمها السياسي اللدود في الإصرار على القانون الحالي رغم الخلل الذي أحدثه في صحة التمثيل، ورفض المسّ به، واكثر من ذلك، رفض حتى مبدأ النقاش فيه رغم إدراك «الخصمين» بأنّه سيعيد إنتاج الصورة النيابية ذاتها، مع تغيير طفيف جدّاً، هذا إذا حصل هذا التغيير الطفيف؟
المسلّم به، بعيداً من بازار المزايدات السياسية، هو أنّ التغيير المنشود لا يتمّ إلّا من خلال معبر الزامي وحيد، ينسف القانون الانتخابي المتخلّف، ويقيم على انقاضه قانوناً جديداً، جوهره الاصلاح الانتخابي الذي يعزّز الانصهار الوطني ويحدّ من الإصطفافات الطائفية والمذهبية، ويمنح الديموقراطية فرصة لإثبات نفسها، ويتيح للبنانيين حرّية الاختيار والتواصل بين المناطق، ويؤسس بالتالي الى بناء النظام السياسي على قواعد سليمة تُبنى عليها دولة عصرية وقوية وقادرة.
وعلى ما يقول مرجع سياسي، فإنّها جريمة كبرى نرتكبها بحق بلدنا إن استمرّينا في مقاربة سبب الأزمة وأصل المرض، بسلوك النعامة التي تدفن رأسها في التراب عند هبوب العاصفة، برغم ادراكها انّ الهلاك ينتظرها. فالفرصة مؤاتية لخطوة جريئة تطيح القانون المتخلّف النافذ حالياً، بانقلاب جذري في بنية النظام الانتخابي، يملّك لبنان قدرة الاستمرار والصمود أمام أيّ عاصفة. وإلّا فإنّ بقاء القانون الانتخابي بصيغته الراهنة، سيحوّل العاصفة المتكوّنة في أفق لبنان إلى إعصار يطيح كل شيء.