وأخيراً انتخب اللبنانيون مجلسهم الجديد بعد تغييب للعملية الانتخابية امتدت لتسع سنوات. هناك مشترك بين العملية الحالية وما سبقها من قبل، كما هناك بعض التمايزات. ثمة سمات تعكس واقع الانتخابات الحالية.
السمة الأولى، أن الانتخابات تجرى في ظل قانون جديد على قاعدة النسبية المطلقة ضمن الدوائر، وهي المرة الأولى في تاريخ لبنان يتم تطبيق مثل هذا القانون. أدرك الجميع بعد أن بات القانون موضع التطبيق أخطاره على مختلف الكتل السياسية. في لوائح مقفلة، واعتماد صوت تفضيلي، باتت الانتخابات عبارة عن صراع بين أصحاب اللائحة الواحدة، باعتبار أن الصوت التفضيلي هو الذي يحدد من الرابح ومن الخاسر. لذا شهدت هذه الانتخابات ما يشبه حرب السكاكين والخناجر بين أبناء اللائحة الواحدة، وتهم بالخيانة والتآمر بعضهم على بعض.
السمة الثانية، كانت مفاجأة الاقبال الضعيف على الاقتراع، بما جعل الإقبال على الانتخابات الحالية أقل من انتخابات عام 2009. هذا يعكس المزاج الشعبي المصاب بقسم واسع منه بإحباط، باعتبار أن المرشحين والنواب مفقودة الثقة بهم، بعد أن خضعوا للاختبار. لذا كان الشائع في أكثر من منطقة رفض الذهاب إلأى الاقتراع كتعبير عن رفض هذه الطبقة السياسية الطائفية، وعدم اقتناع بالجدد الذين يتنطحون للحلول محل القدماء.
السمة الثالثة معطوفة على ما سبق، ترجم قسم واسع جدا من الناس نفورهم من المرشحين، بابتكار منطق يقول : بما انهم لن يفيدونا بشيء، فنأخذ أموالهم. هكذا شهدت هذه الانتخابات أكبر عملية شراء أصوات عرفها التاريخ اللبناني، وانخرطت فيها كل القوى السياسية من دون استثناء. اذا كان المزاج الشعبي له ما يبرره، فإن حيتان المال كانوا، يصدرون في المقابل، عن احتقار لهذا الجمهور، بحيث يحددون له سعره، بما يفقده كرامته.
السمة الرابعة، ان الخطاب السياسي الذي رافق الحملات الانتخابية، كان خطاب حرب أهلية بامتياز. يحمل الكلام الشحن الطائفي والمذهبي من جهة، وبوزع الاتهامات بالتخوين والعمالة لإسرائيل أو للقوى الإقليمية. كانت القوى السياسية تدرك جيداً بحكم خبرتها، أن المزاج الشعبي لا يمنحها الولاء الذي ترغب فيه، وأن ملف الانتقادات والتهم تلف أعناق كل أركان السلطة. فلم يكن هناك من وسيلة سوى الاستنفار المذهبي المقرون بكل الأخطار على الطوائف والمذاهب، ما لم تتم إعادة انتخاب المرشحين أنفسهم. وقد أنتج هذا الخطاب استقطابات وتكتل حول أركان السلطة وممثليها الطائفيين انعكس في نتائج الانتخابات.
السمة الخامسة تتصل بنتائج الانتخابات. إن أكثر من تسعين في المئة من القوى السائدة قد عادت إلى المجلس. ومن استنكف من أقطاب الطوائف عن الترشح، استبدله بنجله. المهم ان يبقى المقعد محصورا بالعائلة. اما القلة القليلة من الجدد الذي اخترقوا الستار الحديدي الطائفي، فلا يشكلون ظاهرة يُعتد بها. وما قيل عن مجتمع مدني، يحتاج إلى أكثر من تدقيق لجهة مدى تمثيله لعمل مدني حقا، أم أن هذه الصفة طربوش جديد لأشخاص رغبوا في دخول معترك الحياة العامة. مع الإشارة إلى أن معظمهم يفتقد إلى حيثية سياسية مقنعة لترشحه. أما القوى اليسارية والديموقراطية، فقد بدا وزنها ضئيلاً جداً، وعاجزة عن تشكيل ظاهرة مميزة في وجه تحالف الرأسمالية المتوحشة والطبقة السياسية– الطوائفية.
السمة السادسة تسلط الضوء على واقع المجتمع اللبناني، وكم أمكن لهذا المجتمع تجاوز موروثات المكونات التي تتحكم ببناه، من طائفية وعشائرية وقبلية. اظهرت الانتخابات حجم الارتداد البنيوي للمجتمع اللبناني، وهشاشة حداثته، والكلام الزائف عن تقدمه وتطوره قياساً على شعوب المنطقة العربية. كشفت الانتخابات، على العكس، حجم التخلف المريع الذي يقيم في داخله الشعب اللبناني. في أشهر معدودة، عاد إلى حضن الطوائف والمذاهب، وتلاشى الكلام الكاذب عن الدولة المدنية والديموقراطية، وكل التغني بالميزات اللبنانية. بدا الشعب اللبناني مشدوداً إلى تجديد حربه الأهلية، وكأن ما حصل غير كاف.
أما السمة الأخيرة فهي مفتوحة على سؤال: كم كانت الديموقراطية حاضرة في هذه الانتخابات، وكم تم انتهاكها. إن انتخابات يحكمها خطاب سياسي فئوي، وقائمة على شراء الذمم، وتغوّل حيتان المال من تجار المخدرات وتبييض الأموال ونهب المال العام، لا تنطبق عليها أي صفة من صفات العملية الديموقراطية، مهما تبجح القائمون على ادارة العملية الاقتراعية. لا تكفي الإجراءات الشكلية التي رافقت العملية، من وجود رقابة محلية أو دولية، للقول بنزاهة الانتخابات. فهذه النزاهة مطعون بها في المضمون، استناداً إلى القواعد والأسس التي حكمت الانتخابات.
كل الأمل أن تشكل الانتخابات المقبلة بعد أربع سنوات تجاوزاً لهذه «الموبقات» التي تسربلت بها الانتخابات الحالية، وأن نشهد تطوراً سياسياً واجتماعياً، يجعل من الانتخابات عرساً ديموقراطياً فعلياً.