بعد تسريب مقترحات الامتحانات الرسمية التي أرسلها المركز التربوي للبحوث والإنماء إلى وزارة التربية والتعليم العالي للعام الدراسي الجاري 2021/2022 قبل يومين، والاطّلاع على ما تحتويه من اعتماد موادّ اختيارية لصفوف الشهادات الثانوية والمتوسطة، عاد الحديث بين الأساتذة حول ما قامت به وزارة التربية منذ بداية جائحة كورونا حتى اليوم على المستوى التعليمي وكيف كانت تأثيراته على مجمل العملية التعليمية كما لم تتوقف هذه الأصوات عند ما سبق، بل تضع الملاحظات على محتوى المنهج الذي يتغيّر كلّ سنة دراسية أكثر من مرة، ما يطرح تساؤلات حول مدى جدّية ومعرفة العاملين عليها بما يجري على أرض الواقع في المدارس.
تنحيف فوق التنحيف
قصة التخفيف من المحتوى أطول من أن ترويها هذه السّطور هنا بل تعود إلى مناهج 1997. ما يجري اليوم بدأ منذ أعوام مضت خلال ولاية الوزير السّابق الياس أبو صعب مع التخفيف الأول، ثمّ العام الماضي مع تخفيفٍ ثانٍ بعد العودة إلى التعليم الحضوري والفشل الذريع الذي مُنيت به تجربة التعليم عن بعد “الأونلاين” أيام الوزير السّابق طارق المجذوب، إذ حُذفت أهداف كثيرة من الدروس بهدف تقصير عدد الأيام التعليمية فكان هذا التخفيف غير مدروس بالشكل اللازم وألغى أهدافاً تعليمية وسيطة، كأن يدرس التلميذ جزءاً من المعلومة ولا يستكملها ثمّ يعود ليدرس ما يلي دون صلة وصل، ما وضع الأساتذة في حيرة حول كيفية التعويض أو التوليف للوصول إلى ما هو مطلوب.
في بداية العام الدراسي الجاري عادت اللجان المختصّة بمحتوى المنهج للاجتماع على مختلف اختصاصاتها لتقرّر إعادة العمل ببعض ما كان مُلغى خلال السّنة السّابقة، ولكن دائماً من دون النظر في الوقت المتاح، ففي مادة العلوم الطبيعية للمرحلة الثانوية تفيد أستاذة المادة في ثانوية رسمية بأنّ المطلوب في المنهج الرسمي أكبر بكثير من الوقت المتاح، وعليه يقوم الأساتذة باختيار المعلومات لتدريسها وفقاً لحاجتهم إليها في الأعوام القادمة. أما في صف علوم الحياة حيث المحتوى الأكبر لهذه المادة فدوماً تقع الإلغاءات على الدروس الأخيرة بسبب ضيق الوقت.
وهذه المشكلة المتعلقة بضيق الوقت تتكرّر في معظم المواد العلمية للمرحلة الثانوية، فالمطلوب أكبر بكثير من الوقت المتاح فيقوم الأساتذة في الكثير من الأحيان بالطلب إلى التلامذة عدم الكتابة في الصفوف والانتباه للشرح فقط ومن ثمّ يرسلون لهم الملاحظات اللازمة إما مطبوعة على أوراق “أيام الـ 1500” أو بشكل ممكنن الآن.
التدريس بحسب التسريب
أما في مادة الكيمياء فتقول منسّقة المادة في إحدى الثانويات الرسمية إنّ المادة مُسخت بشكل كامل وقُزّمت والمعلومات “صارت من كل وادٍ عصا”، فهناك أهداف تعليمية أساسية ألغيت من الصفوف الأساسية كان يعتمد عليها الأستاذ في الصفوف الثانوية، فصار عليه الآن لزاماً أن يعيد شرحها ويقع في مشكلة الوقت الآنفة الذكر لأن حصص المادة المقرّرة ما زالت على حالها. أما في ما يتعلّق بالمعلومات المطلوبة للامتحان الرسمي فحتى الآن نحن نمشي على التسريبات من داخل اللجان التي تؤكّد إلغاء بعض الدروس فنقوم بترك تدريسها مقابل التركيز على ما بقي، وهذا الأمر يثير الكثير من الاستغراب ويطرح التساؤل الدائم: ألا يعلم المعنيون في المركز التربوي أو الوزارة ما أنجزناه حتى اليوم من تدريس؟”. اليوم يُترك الأساتذة في الصفوف لتقدير الخطة التعليمية بأنفسهم، فربما يقرّر أستاذ ما تمرير هدف تعليمي مع ما يستهلكه هذا الأمر من وقت وتعود اللجان لتلغيه، وهذا ما حصل في مادة الكيمياء لصف علوم الحياة في المدارس الخاصة التي شارفت على إنهاء المقرّر كما كان مطلوباً في بداية العام الدراسي الجاري.
يصل تلميذ صف التاسع إلى الثانوية دون أن يتقدّم إلى امتحان في أيّ مادة علمية
ما سبق يستلزم وضع خطة طوارئ عند وضع المناهج الجديدة أو حتى للمناهج القائمة حالياً، فالمواد التعليمية تعطي مهارات معيّنة وكل إلغاء يؤدي لفقدان مهارة، على سبيل المثال أُلغيت السّياسة الزراعية من دروس الاقتصاد للصفوف الثانوية ونحن بأمسّ الحاجة إلى بناء فكرة ومهارة الإنتاج والمجتمع المنتج في لبنان. كما أنّ لهذه الإلغاءات تأثيراً كبيراً على الوضع الجامعي للطلاب، فما هو مطلوب هناك لم يتغيّر ولا يراعي المعلومات المكتسبة مدرسياً، ولاجتياز امتحانات الدخول إلى بعض الكلّيات على الطالب دراسة أمور لم يَعرف عنها شيئاً مدرسياً.
المواد الاختيارية
هل يمكن اعتبار الشهادة اللبنانية اليوم موازية لما كانت عليه قبل 10 سنوات؟ وهل يُعتبر الطالب الذي أنهى المرحلة الثانوية اليوم أنّه خضع للاختبارات نفسها التي خضع لها من سبقه بعدد من السّنوات؟
ad
الإجابة ببساطة هي كلا، ما يجري اليوم على الشهادة اللبنانية هو إمعان في تدميرها ووضع خيارات أقلّ ما توصف بأنّها هامّة للغاية بين أيدي تلامذة قد يفضلون مادة على أخرى بسبب حبّهم للأستاذ ويجعلهم وأساتذتهم في موضع شائك وصعب، فلا يرغبون بحضور مواد لن تكون ضمن خياراتهم، كما أنّ الأستاذ يعلّم في صفوف لا ترغب بوجوده كحال أساتذة المواد العلمية في الصفوف الأدبية على سبيل المثال، وهنا يُبدي أستاذ لمادة التاريخ امتعاضه من الحال التي وصلت إليها هذه المادة المؤثرة والعظيمة في بناء الأجيال، التي تُدرّس في الجامعات حتى للاختصاصات العلمية لبناء الثقافة والمعرفة، بينما تقوم وزارة التربية بجعلها خياراً.
بالإضافة إلى أنّ فلسفة المادة الاختيارية هي بناء الاختصاص عَمودياً لا تخفيف الحمل عن كاهل الطلاب، وما يحصل اليوم هو ترك أُسس دون بناء، فبحسب الورقة المسرّبة من المركز التربوي يمكن لتلميذ الصف التاسع أن يحصل على شهادة وينتقل إلى المرحلة الثانوية دون أن يتقدم إلى امتحان في أيّ من المواد العلمية (عدا الرياضيات) أو دون أن يتقدّم إلى امتحان في أيّ من المواد الاجتماعية.
وأخيراً، يقول أستاذ قارب سنّ التقاعد أنّه سابقاً كان لديه كلّ الثقة بالتلاميذ والطلاب الجامعيين، فكان يذهب إلى عيادة طبيبة علّمها ووضع حياته بين يديها بكلّ اطمئنان، أما اليوم فيُبدي كلّ الخوف على ما ينتظر البلاد ويقول: “خايف كتير”.