يغرق اللبنانيون في متابعة تفاصيل الانتخابات النيابية والترشيحات والتحالفات وسط مفارقات ثلاث:
أولاً: إنها الانتخابات النيابية الأولى منذ تسع سنين وبعد تمديد للمجلس الحالي لثلاث مرات.
ثانياً: إنها العملية الانتخابية الأولى التي تجري وفق قانون جديد يجري إقراره للمرة الأولى منذ العام 1960 والذي يلحظ في جزء أساسي منه النظام النسبي.
ثالثاً: إنّ الحملات الانتخابية تخرج للمرة الأولى منذ العام 2005 من الاصطفاف الإقليمي والذي تمظهر داخلياً بانقسام 8 و14 آذار لتختلط التحالفات ويغيب الخطاب السياسي الذي درج طوال الحقبة الماضية وتتصدّر فيه العناوين الحياتية وبناء الدولة ومحاربة الفساد.
وفي الانشغال الداخلي ظهور طبقة من المرشّحين المتموِّلين الساعين الى دخول الندوة البرلمانية الى جانب حالات اعتراض حزبيّة وحصول انشقاقات في بعض الاحيان.
لكنّ الأهم وجود حالة من اللامبالاة وعدم الاكتراث لدى بعض الأوساط لم تنجح الماكينات الحزبية في تجييشها بعد وهو ما قد يخفّض نسبة الاقتراع المتوقعة، وهي نتيجة طبيعية متوقعة لهؤلاء نتيجة خلط التحالفات والاصطفافات السياسية بعد أكثر من 11 عاماً من التجييش المستمرّ وفق انقسام 8 و14 آذار وقد يكون هذا ما حدا بالبعض الى اختيار المجتمع المدني والاصطفاف خلفه.
هذه الصورة المعقّدة يختصرها سفير دولة أوروبية متابعة عن كثب للوضع اللبناني بالقول: «إنّ القانون الجديد يمزّق أحشاء المجتمعات اللبنانية، وخلط الأوراق السياسية يأخذ الناس الى صناديق الاقتراع وهم يفتقدون الهوية السياسية».
لكنّ «الجبلة» الداخلية الحاصلة والتي تقارب الفوضى لا تتوافق والقراءة الحاصلة للأوساط الديبلوماسية.
بالنسبة اليها فإنّ ما نتج عن زيارة الرئيس سعد الحريري للسعودية هو الأهم، وإنّ نتائج هذه الزيارة تظهر من خلال خريطة الانتخابات النيابية. ووفق المعلومات المتداولة فإنّ السعودية نجحت في استعادة الحريري ومنعت انزلاقَه في اتّجاه تركيا أو ربما قطر كسندٍ إقليمي، تمّ توضيح كل الاخطاء التي سادت المرحلة الاخيرة وقيل إنّ المسؤولين السعوديين أقرّوا بطريقة أو بأُخرى بالاخطاء التي اصابت الحريري في الشكل، لكنهم كرّروا ملاحظاتهم لجهة مضمون «الازمة» التي حصلت وإنّ الحريري أجرى بدوره إعادة قراءة، وتمّ التوافق على عدد من العناوين.
ووفق «غسيل القلوب» الذي حصل تمّ التفاهم على مبدأ مواجهة ايران في لبنان على أن تُترك الطريقة والاسلوب للحريري الذي شرح بإسهاب واقع الساحة اللبنانية والامكانات المتوافرة في ضوء المستجدّات التي طاولت الساحة السورية. فالرياض تريد عدم تكريس انتصار سياسي لإيران في لبنان وسط توقّعاتها بأنّ المنطقة امام مرحلة مواجهة جديدة.
ووفق هذه المعلومات فإنّ المسؤولين السعوديين ركّزوا على النقاط الآتية بخصوص المعركة الانتخابية:
1- عدم التلاقي أو التعاون مع «حزب الله» ولو شكّل ذلك مصلحةً انتخابية لتيار «المستقبل».
2- فتح قنوات التواصل بهدف التعاون الانتخابي مع كافة القوى والشخصيات السنّية التي لا تُعتبر حليفة لـ«حزب الله»، وجرى استعراض هذه الأسماء بمَن فيهم اللواء اشرف ريفي. وقيل إنّ الحريري سيعرض على ريفي انضمامه الى لوائح «المستقبل» ولكن على أساس مقعد واحد لا أكثر. وتمسّك المسؤولون السعوديون بضرورة الوقوف على «خاطر» الرئيس فؤاد السنيورة الذي رفض تنظيم لوائح انتخابية على يمين تيار «المستقبل». ولذلك تعمّد الحريري فور عودته الى بيروت الذهاب الى منزل السنيورة مباشرة وقبل أن يذهب الى أيّ مكان آخر، في اشارة تكريم وحفظ كرامة.
3- ركّز المسؤولون السعوديون على ضرورة استعادة التعاون مع «القوات اللبنانية» في الدوائر الانتخابية شرط أن لا يتعارض ذلك مع المصلحة الانتخابية المباشرة لتيار «المستقبل»، ووفق المثل القائل «أحبك يا إسواري ولكن ليس بقدر معصمي» ووفق هذا المبدأ حصل تحالف ثلاثي بين «المستقبل» و«الاشتراكي» و«القوات» في دوائر الجبل، اضافة الى تعاون آخر في عكار والبقاع الغربي والبقاع الشمالي.
4- نجح الحريري في إقناع المسؤولين السعوديين بضرورة عدم محاصرة «التيار الوطني الحر» لأنّ ذلك سيدفعه الى الارتماء كلياً في أحضان «حزب الله»، بل يترك مجالاً للتعاون الانتخابي ولو بمقدار محدود في بعض الدوائر، ما يمنع محاصرته وفي الوقت نفسه لا يعطيه تحالفاً شاملاً مع «المستقبل» في كافة الدوائر كما كان مطروحاً، والذي في حال حصوله سيكون على حساب حلفاء السعودية المسيحيين.
ووفق هذا المنظار استمرّ التعاون في بعض الدوائر، ومنها بيروت الاولى ولو من خلال حزب «الطاشناق». كذلك قرّر الحريري تقسيم قوته في دائرة الشمال الثالثة بين القوى الثلاث بحيث يقترع «المستقبل» لمصلحة «المردة» في قضاء زغرتا ولمصلحة «القوات» في الكورة ولمصلحة «التيار الوطني الحر» في البترون.
5- ستعمل الرياض على مساعدة تيار «المستقبل» لتجاوز أزمته المالية والتي تعرقل حملاته الانتخابية مع التزامها دعم الحريري للاستمرار في رئاسة الحكومة كونه الشخصية السنّية السياسية الأقوى.
ووفق هذه الصورة، استنتجت الاوساط الديبلوماسية أنّ السعودية نجحت في إعادة ترميم خريطة نفوذها في لبنان ولكن مع إدخال تعديلات أساسية على أسلوب العمل من خلال ترك هامش واسع من حرية الحركة للحريري، الذي يتقاطع بذلك مع نظرة جنبلاط واسلوبه في المرحلة الحالية.
ووفق هذه الصورة، أو بتعبير أدق، وفق المعادلة الجديدة التي تسعى السعودية الى إرسائها في لبنان عبر الاستحقاق النيابي تاركة للحريري هندسة التفاصيل، جاء تعاطي الرياض مع المؤتمرات الدولية الثلاثة المقرّرة للبنان: مؤتمر روما الذي سيُعقد في 15 آذار الحالي ومؤتمر باريس الذي حُدِّد موعدُه مبدئياً في 6 نيسان المقبل، على أن يسبقَه اجتماع تحضيري في 26 الجاري، ومؤتمر بروكسل المخصَّص لموضوع النازحين السوريين في لبنان وهو الملف الذي يرهق الدولة اللبنانية. ووفق مصادر مطلعة فإنّ المسؤولين السعوديين سيحضرون المؤتمرات الثلاثة، إلّا أنّ حضورهم مؤتمرَ روما لن يتضمّن مساهمة مالية لوجود تحفّظات سعودية عن السياسة الامنية اللبنانية.
أما في شأن خصوص مؤتمر باريس فإنّ السعودية، اضافة الى دولة الإمارات، ستعملان على المساهمة بما يقرب من المليار دولار وستصل المساهمة الى اكثر من مليار ونصف المليار اذا ما أُضيفت مساهمةُ الكويت والصناديق المعنيّة. كما أنّ السعودية تدرس حجم مساهمتها في مؤتمر بروكسل.
ووفق اوساط دبلوماسية اوروبية فإنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سيسعى لإقناع وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بزيادة المساهمة السعودية وذلك خلال زيارة الأخير لباريس بعد أيام. كذلك سيجري طرح الملف اللبناني من زاوية تأكيد التمسّك باستقراره، وهو ما كان جدّد الاتفاق عليه مع الرئيس الاميركي دونالد ترامب، وقد تكون لتأجيل زيارة ماكرون الى لبنان والتي كانت مقرّرة في نيسان المقبل علاقة بالمرحلة التصعيدية التي تنتظر المنطقة والتي قد تطاول جنوب لبنان بطريقة أو بأُخرى.