Site icon IMLebanon

«التسوية الغامضة»… هل تُنتِج قانون الإنتخاب؟

أزمة القانون الانتخابي تزداد عمقاً، وبالتالي الطريقُ إلى إنتاج قانون جديد بديل عن قانون الستّين، محفَّر ومزروع بألغام وتعقيدات، وأكثر من ذلك تغَطّيه حفلة مزايدات سياسية ومصلحية لا نهاية لها.

الجوّ العام عابق بالكلام الانتخابي، والكلام عن اعتماد النظام النسبي بات خجولاً أمام استفحال الكلام عن قانون الستين وزرعه في الذهن العام على أنه «أمر واقع» لا بدّ منه بل لا مفرَّ منه كأساس لإجراء الانتخابات النيابية أواخر الربيع المقبل وفق مندرجاته. والواضح أنّ الحاضنة السياسية لقانون الستين قد شغَّلت ماكيناتها في أقصى طاقاتها دفاعاً عنه.

وهنا يقف النائب وليد جنبلاط في صدارة الداعين الى إبقاء الستين على قيد الحياة. حتى إنّ البعض في هذه الحاضنة يقاربون المسألة على قاعدة «الستين أمامكم والتمديد لمجلس النواب وراءكم»، بما يَفتح الباب على تعقيدات وعناصر اشتباك إضافية على الحلبة الانتخابية.

مريدو اعتماد النظام النسبي، وفي مقدّمهم الرئيس نبيه برّي و«حزب الله» وبعض الحلفاء، قالوا كلمتهم بوجوب اعتماد النسبية الجزئية أو الكلية كخطوة في طريق تطوير النظام السياسي وتمثيل عادل لكلّ المكونات.

وهذا الكلام ليكتمِل يحتاج الى ترجمة في القانون الجديد، لكنّ الملاحظ مع دخول البلد في الزمن الانتخابي، تبدو همّة بعض الآخرين، ممَّن قالوا بدعم النسبية علناً، باردةً ولا تنسجم مع الحماسة التي يُبدونها على المنابر وخلف الميكروفونات!

وهو أمرٌ يَرفع من معنويات الحاضنة السياسية للستّين ويشكّل عامل اطمئنان لها. وما يحمل على التساؤل عن صدق نوايا هؤلاء، هو عدم تسجيل ولو حراك متواضع من قبَلهم في اتجاه ترجمة الشعارات التي يطلقونها ليل نهار تغنِّياً بالنسبية وضرورتها؟

هذا الجو يُنذر باشتباك سياسي حتميّ، وفي مدى ليس بعيداً، وليس في الإمكان تحديد حجمه أو تداعياته أو آثاره منذ الآن. فقانون الستين فرَز الألوان السياسية بين متبَنٍّ له بقوة ومتمسّك به وكأنه كتاب سماوي لا تجوز مقاربته لا تغييراً ولا تعديلاً، وبين رافض له بقوة، وهنا يأتي كلام برّي على قاعدة «اللهمّ أشهَد أنّي قد بلّغت»: في الذهاب الى الستين مجازفة خطيرة، هو مثابة عبوة ناسفة ويذهب بالبلد الى مشكلة كبرى… فأعوذ بالله من الستين فهو بلا أدنى شك ضربة للبلد وضربة للعهد، وسيضع الطبقة السياسية في مواجهة الأكثرية الساحقة من اللبنانيين التي تريد التغيير والتطوير».

كلمة «الستين» هي الغالبة حالياً، وحده وليد جنبلاط كان الأكثر صراحةً في التعبير عن موقفه الرافض لهذا القانون. أسبابه معروفة «لا أقبل قانوناً يُلغي الدروز كمكوّن أساسي في البلد».

والمنطق الجنبلاطي يستمدّ على قاعدة يعتبرها جوهرية مفادُها: «أنّ هذا البلد، وحتى إشعار آخر، ليس دولة بكلّ ما تعنيه هذه الكلمة، بل هو مجموعة طوائف ومذاهب، بل هياكل طائفية ناسجة بين بعضها البعض شراكةً ما، على قاعدة ما يُسمّى بالديموقراطية التوافقية. وإلى أن تُعاد مأسَسة البلد وإنتاج الدولة على ما هو افضل، وطالما أنّ البلد مقسّم وما دام النظام الطائفي قائماً، فلا احد يحق له ان يلغي الآخر».

وأكثر من ذلك، فإنّ المنطق الجنبلاطي يرتكز على الإقرار بأنّ لبنان مقسّم على طوائف، وهناك طوائف كبيرة وطوائف صغيرة، وجنبلاط مسَلم أنّ الدروز ليسوا من الطوائف الكبيرة، لكنّه يحاول امام «الهجمة على تغيير القانون الانتخابي»، أن يثبتَ أنّ الصفّ الثاني من الطوائف موجود، ولديه حق «الفيتو».

ذلك أنّه يعتبر أنّ أي ذهاب نحو النسبية أو أيّ تخلٍّ عن الستين في الوضع الحالي، هو مسألة وجودية، ليست فقط له شخصياً، بل لطائفته. وفي هذا السبيل لن يتوانى عن الذهاب الى السقف العالي في مواجهة هذا الامر.

لكنّ صدى الموقف الجنبلاطي سقط على ما يشبه حفلة مزايدات تصبّ كلها في خدمة الستين، فاستهلّها سمير جعجع يتغريدة سلّفَ فيها جنبلاط موقفاً متضامناً: «لن نقبل بأيّ قانون انتخاب جديد لا يرضى به الحزب التقدمي الاشتراكي»، وأكمَلها تيار «المستقبل» ببيان لافت للانتباه في مضمونه «يجب أن تجريَ الانتخابات في موعدها على أساس القانون المختلط المستنِد الى النظامين الاكثري والنسبي وفق الصيغة التي تقدّمت بها كتلة «المستقبل» بالاشتراك مع «اللقاء الديموقراطي» و«القوات اللبنانية»».

معنى ذلك رفعُ السقف ومزيد من التعقيد امام انتاج قانون جديد. ولكن السؤال الذي يفرض نفسَه هنا: هل إنّ جنبلاط ما زال متمسّكاً بهذه الصيغة المختلطة أم أنه متمسّك بالستين ولا شيء غيره؟

هنا تبدو المسألة وكأنّها دخلت معركة الأسقف العالية، بين الداعين الى النسبية، وبين المتمسّكين بالستّين، وبين مفصّلي الصيغ الانتخابية والدوائر على مقاساتهم السياسية. والواضح حتى الآن أن لا قواسم مشتركة في ما بين هؤلاء. ويبدو أنّ ثمّة استحالة في نسج أيّ مشتركات نظراً لامتلاك كلّ طرف حقّ النقض.

امام هذا الافتراق الانتخابي الحاد بين القوى السياسية يحضر السؤال: كيف سيتمّ الفصل في هذا النزاع، وفي أيّ اتجاه؟

في الماضي كانت القواسم المشتركة تفرَض فرضاً، ومنذ العام 1992، كان السوري هو الذي يفصلها، حتى عندما خرج من لبنان، وفي ظلّ الواقع المرتجّ في العام 2005 بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، لجأت القوى السياسية الى انتخابات على أساس قانون من إرثِ السوريين.

وفي العام 2009 امكنَ الوصول الى صيغة انتخابية (الستين في الدوحة)، وذلك نتيجة لِما يمكن ان تسمّى «ميني حرب أهلية» في 7 أيار 2008، ونتيجة عدمِ وجود إمكانية لبلوغ صيغة جديدة، تمّ التمديد مرّتين لمجلس النواب، فما هو الحلّ وكيف يمكن الوصول الى قانون جديد؟ وهل صار البلد بحاجة الى مرجعية أو سببٍ قاهر لكي يُصار الى إنتاج صيغة انتخابية جديدة؟

هناك من يقول إنّ «التسوية الغامضة» التي أدّت الى انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية وإلى التشكيل السريع لحكومة سعد الحريري هي نفسُها التي ستفرض في نهاية الامر إنتاج قانون انتخابي جديد. وليس هناك متّسَع من الوقت، إذ إنّ امام القوى السياسية أسابيع قليلة لتوليدِ القانون الجديد، كوننا أصبحنا على عتبة الدخول في المهَل.

وهذه الفترة الضيّقة زمنياً تَستحضر الأسئلة الآتية:

– هل هناك رغبة جدّية وحقيقية لدى القوى السياسية بالتغيير وإنتاج قانون جديد؟

– كيف السبيل الى إنتاج قانون يراعي مصالح الجميع، سواء أكان على أساس النظام الاكثري او النظام النسبي، وهل هناك إمكانية لذلك ام انّه ضربٌ من المستحيل؟

– كيف يمكن للنظام النسبي، سواءٌ أكان في الدائرة الواحدة او الموسّعة أو القانون المختلط، أن يُطمئن أو يأخذ في الاعتبار هواجسَ القلِقين منه؟

– هل الستّين أقوى من الجميع وجدرانُه صلبة لا يستطيع احد ان يخترقها لا تعديلاً أو تغييراً؟

– حدَّد جنبلاط موقفه النهائي مع الستين، فهل يناسب الستّين كلّ الآخرين، وخصوصاً الذين يدعون الى التغيير، وتبعاً لذلك كيف يمكن أن يستقيم البلد في ظلّ هذا الستين الذي تستفيد منه اقلّية وتعارضه الشريحة الكبرى من اللبنانيين، وهل تستطيع أقلّية أن تفرض موقفَها على أكثرية، وهل تستطيع أكثرية ان تلغيَ اقلية او تحجّمها؟

– أين هو خطاب القسَم من المطالبين ببقاءِ الستّين، ومن أصحاب الصيَغ الانتخابية المفصّلة على المقاس؟

– أغربُ ما تبدّى أخيراً هو أنّ بعض المزايدين الذين ما زال قلبهم على الستين، عبّروا عن مفاجأتهم بموقف جنبلاط، علماً أنّ الزعيم الاشتراكي هو الوحيد الذي قال موقفَه علناً، فهل حفلة التضامن مع جنبلاط هي حفلة تكاذب ومشاعر غير صحيحة، أم أنّها تُعبّر عن النوايا الحقيقية للمتضامنين الذين اعتبروا أنّ موقف جنبلاط يشكّل لهم الملاذ الآمن لكي يَهربوا من المواقف والالتزامات المعلنة وغير المعلنة، ولكي يتسلّحوا بمقولة إنّ الوطنية والشراكة توجبان مراعاةَ جنبلاط وعدم إلغاء او تحجيم أحد؟

هذه الأسئلة تحمل أجوبتَها، فالصورة الانتخابية في جانب منها أطراف تَسبح بحمد الستّين وتقدّس له، وفي جانبها الآخر اطراف أخرى تقول «أعوذ بالله من شرّ الستّين». وفي وسط الصورة اطراف تحذّر من أنّ تعَذُّر إنتاج قانون في الأسابيع القليلة المقبلة، معناه أنّ الانتخابات النيابية حاصلة في مَوعدها على أساس الستين، ولن يَستطيع أحد تأجيلها، أو حتى يطرح فكرة التمديد للمجلس النيابي. وبالتأكيد إنّ إجراء الانتخابات على أساس هذا القانون يعني نهاية العهد العوني قبل أن يبدأ.