ما ان تقفل اللوائح الانتخابية الاثنين المقبل، يصبح الذهاب الى الاستحقاق واقعاً اجرائياً ليس الا. لا احد يتقدم اكثر الى الامام، ولا يتراجع اكثر الى الوراء. يصير على الجميع انتظار ما ستفضي اليه صناديق الاقتراع. اليوم التالي للانتخابات هو المهم عندئذ
سبب واحد كي تجري انتخابات 15 ايار هو انه موعدها القانوني، وألف سبب لئلا تحصل في هذا اليوم، إما لأن السنّة سيعكتفون، او لأن القضاة اعضاء لجان القيد سيتغيبون، او لأن الاساتذة سيمتنعون عن مراقبة صناديق الاقتراع، او قد يتولد من حيث لا يُتوقع سبب امني، او يكبر الكباش الدائر بين القضاء والمصارف، او ينقص المال الكافي لادارة الانتخابات، او يتفاقم التردي المعيشي المتدهور في الاصل….
ليست وحدها الاسباب الوجيهة الكافية. في ظل قلق يكاد يكون معمماً على الاقطاب والكتل والاحزاب والتيارات، ناجماً عن الخشية من مفاجآت غير محسوبة في يوم التصويت، او في احسن الاحوال في الساعات الثماني والاربعين التي تسبقه عندما تستقر نهائياً امزجة الناخبين واتجاهاتهم متأثرين بالحدث الاحدث، ناهيك بأن اللوائح جميعها ستختبر جدياً هذه المرة سلاحي الحاصل والصوت التفضيلي بعدما تدربت عليه، يصبح من الطبيعي الاعتقاد بأن حظوظ اجراء الانتخابات كحظوظ تأجيلها. لا يعود مجلس النواب عندئذ المذنب، على غرار ما فعل ثلاث مرات على التوالي اعوام 2013 و2015 و2017 بتمديد ولاية البرلمان.
لأن احداً لا يستطيع سوى ان يقول ان الاستحقاق واقع، فإن ما يتعيّن ان يتحضّروا له هو اليوم التالي لاعلان النتائج الرسمية النهائية، وتكشّف الواقع الجديد في مجلس النواب وإحجام كتله والتغيير الحاصل. طرفان فقط قد يكونان سعيدين بحصول الانتخابات في موعدها: المجتمع الدولي الذي يلح على اجرائها وعينه عليها من خلال ديبلوماسييه وسفاراته وهيئات المجتمع المدني المنخرطة في الاستحقاق او المراقبة له، وحزب الله الذي سيختبر هذه المرة استحقاقاً لا يشبه اياً من المرات التي اجتازها طوال ثلاثة عقود. ربما انتخابات 2022 توازي بأهميتها انتخابات 1992، عندما قرر للمرة الاولى الدخول الى النظام اللبناني والمشاركة في الحكم عبر البرلمان. ذاك مثّل التحوّل السياسي الاهم في مساره مذ اعلن انطلاقه عام 1985، والاستحقاق الجديد هو التحوّل السياسي التالي له الذي سيمنحه الشرعية الشعبية التي ظل يفتقر اليها في العقود المنصرمة، حتى الامس القريب.
في ما مضى، بين عامي 1992 و2005، كانت سوريا هي المظلة الواقية لكل الادوار المتشعبة التي قام بها، واتاحت له ان يصبح في صلب المعادلة السياسية الوطنية في معزل عن سلاحه الذي لم يحتج الى استخدامه، في ظل وجود القوات السورية في لبنان. بين عامي 2005 و2016 = بعد استخدامه السلاح للمرة الاولى عام 2008 ثم لوّح به عام 2011 – عُدّ وجوده داخل السلطة عنصراً اساسياً للاستقرار والتوازن السنّي – الشيعي. لم يسع الرئيس سعد الحريري ولا رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط ولا التيار الوطني الحر سوى التعامل معه من هذا المنطلق، مداراة او توجساً او اقتناعاً.
هو الثلاثي الوحيد الذي عنى الحزب ولا يزال في اوقات التفاهم كما الخلاف، دونما ان يقع في اي لحظة الافتراق المحتوم الذي لا رجعة عنه. ليس بسبب حزب الله اخرج الحريري نفسه من الحياة السياسية اللبنانية وإن موقتاً، ولا بسببه يجبه جنبلاط ازمة داخل الطائفة الدرزية في الانتخابات المقبلة كانت جزءاً من تقاليدها ما قبل الحرب، ولا بسببه حتماً انفجر العداء المستحكم بين التيار الوطني الحر وحزب القوات اللبنانية. الا ان تقاطع التطورات الثلاثة هذه، احال حزب الله المرجعية الاقدر على ادارة التوازن بين الضعفاء هؤلاء. عندما يقول انه لن يستولي على المقاعد السنّية المحسوبة للحريري المعتزل، ويقول احد المسؤولين فيه انه يريد الاقتصاص من جنبلاط دونما ايلامه ودونما التعرض اليه في دائرة الشوف، ويطمئنون النائب جبران باسيل سلفاً الى انه سيظل رئيس الكتلة المسيحية الاولى في البرلمان، لا يعني ذلك سوى اعتقاد الحزب بأن الافرقاء هؤلاء سيحتاجون اليه في اي وقت. لكنهم، في الوقت نفسه، اضحوا ضعفاء الى الحد الذي يجعلهم يحتاجون اليه.
ما يُفترض ان ينبثق من انتخابات 2022 يكاد لا سابق له. ليست الاكثرية العددية ما يبحث عنه حزب الله، وهي واقعة حتماً بامساكه بالنصف +1 على الاقل. اختبر في برلماني 2005 و2009 عدم جدوى امتلاك خصومه الاكثرية المطلقة، فعطّلها لهم، مثلما عطلوا له يوم قبض على الغالبية نفسها في النصف الثاني من ولاية برلمان 2009، فلم يسعه فرض ارادته تحت وطأة التسعير السنّي – الشيعي. امتلك كذلك في المجلس الحالي الغالبية المطلقة، دونما ان يحتاج الى التلويح بعصاها او الاستفادة من جدواها. بل مغزى ما يتوخى ان يخرج به من استحقاق 15 ايار هو طراز غير مألوف او مجرَّب قبلاً من الغالبيات التي تكون دستورية او سياسية.
الاصح انه يطلب الآن، في ضوء اتساع مروحة تحالفاته في الدوائر الانتخابية كلها، الحصول على الغالبية الميثاقية التي تحيله مرجعية تشبه الى حد كبير – ان لم تتطابق مع – الدور السوري بين عامي 1990 و2005. في ظروف مثالية لانتخابات لا يسع اي طرف لبناني ان يربح بمفرده او ان يربح الربح الكامل فيها سواه، يصبح حزب الله الوحيد المستعد لخوضها في كل الدوائر، وان يكون له حلفاء فيها كلها، ويخرج منها بكتل كبرت او صغرت ستدور حتماً في فلك كتلته النيابية.
هو المغزى الآخر المقصود لما يرومه حزب الله بالفعل من هذه الانتخابات بعد الغالبية الميثاقية: الشرعية السياسية غير المرتبطة بفائض قوته، بل بانتخابات يخوضها الضعفاء تحت اعين المجتمع الدولي.