أعتقد أنّه آن الأوان لحديث العقل عن السياسة والانتخابات والرئاسة والحكومة والبرلمان، والتي بمجملها يجب أن تعبّر عن إرادة عموم الناس. وإذا كان الأمر كذلك فلا داعي للحديث عمّا حقّقه هذا الفريق أو ذاك، لأنّ الكتلة الكبرى من الناخبين هي التي قالت لا للانتخابات. ولو كان لدينا مراكز أبحاث كما يدّعي الكثيرون من الخبراء، أو السياسيّون الأذكياء، أو الإعلاميّون الشديدو الاطلاع وضيوفهم الشجعان، لكان عليهم جميعاً أن يوضحوا لنا هوية هؤلاء الممتنعين عن الانتخاب واتجاهاتهم السياسية وما هي الرسالة التي أرادوا ايصالها بصيامهم عن الانتخاب.
الصائمون عن الانتخاب هم الأكثرية الصامتة التي لو نطقت لكانت الحياة السياسية غير ما هي عليه الآن، فالصائمون هم الأكثر التزاماً بالدولة وقواعدها وقوانينها وهم الرافضون لكل أشكال العنف العسكري والسياسي والاعلامي والطائفي الذي دمّر لبنان مرّات ومرات، ذلك العنف الذي نشاهده منذ سنوات والذي تسبب بانهيار الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والامني والاداري والمؤسساتي الرئاسي والحكومي والبرلماني.
الصائمون عن الانتخاب هم من المؤمنين بلبنان التقدم والازدهار والوحدة الوطنية واللاطائفية، وهم أصحاب المبادرة الفردية في العلم والعمل والابتكار والاختصاص، لأنّ الفرد هو جوهر الدين والدولة والسياسة والديموقراطية ومجتمع الحريات، لأنّ الفرد المواطن هو الذي لا تأخذه الغرائز المذهبية والطائفية أو الميليشاوية المدمّرة للدولة والمجتمع. وهذا ما يجعله يصوم عن وجبة الانتخابات القصرية وعملياتها القيصرية.
إنّ الصائمين عن الانتخابات هم صمَام الأمان الوحيد للبنان لأنهم الأغلبية العاقلة والتي لم تقامر أو تغامر باستقرار لبنان ومستقبله مقابل حفنة من الأحجام السياسية الوهمية لهذا الفريق أو ذاك.لأن السياسة هي موضوع أو موضوعات كما كان الحال أيّام اجتماعنا على موضوعات استعادة الدولة والوحدة والتحرير والإعمار. وهذا ما لم يعد متوفّراً في لبنان منذ ما يزيد على العشر سنوات، لأنّ الأوطان لا تبقى ببقاء الأقوى بل بتأصيل فكرة الدولة في وجدان المواطنين الافراد المنتظمين في عملية الاستقرار والازدهار، فماهي موضوعات السياسة الآن؟
أعتقد أنّ شهر رمضان المبارك يقدّم خدمة عظيمة للبنانيّين، وهي توقف البرامج السياسية الإعلامية طيلة هذا الشهر. وحبّذا لو تتوقف النشرات الإخبارية أيضاً والتحليلات الصحفية والاكتفاء بشيء من الصوم عن الكلام واحترام الأكثرية الصامتة والقلقة على إستقرارنا الأمني والاقتصادي والمعيشي وعلى تأمين فرص العمل لعشرات الألوف من الشابات والشباب قبل ان يتحولوا الى بيئة للغضب في كل لبنان.
متى يعود الاهتمام باللبنانيين الصامتين، كما حصل بعد نهاية الحرب حين كان هناك من يراهن على الإرادة الوطنية لدى كل الذين كانوا خارج الاصطفافات الحربية والطائفية، وكذلك على الذين غادروا لبنان هرباً من جور الميليشيات وحققوا النجاحات؟ هؤلاء هم الذين أعادوا دورة الحياة الاقتصادية والاجتماعية، حينها التقت إرادة كلّ اللبنانيّين الذين لم تلوّث أيديهم بالدماء. هؤلاء الأفراد الذين تحرّروا من قيود الطوائف والمناطق والقبائل وأعادوا الى لبنان تألّقه وتفاعله وتقدّمه قبل أن تتوقف مجدّداً عجلة الحياة عبر العنف والاغتيال.
إنّ الذين صاموا عن الانتخابات البلدية وصاموا عن الكلام غير الموضوعي وغير الحقيقي وصاموا عن الادعاء، قد تَرَكُوا في وعينا فسحة أمل ومساحة بيضاء تحتاج الى أيادٍ بيضاء تخطّ عليها ما يليق باحترام الفرد اللبناني والمواطن الإنسان بعيداً عن الضجيج والادعاء. وشكرًا لكل من أدى فريضة الصوم الانتخابي حرصاً على لبنان..