نصف الدَّين… من “الهدرَيْن“
تشكل “الكهرباء” علة العلل في لبنان. فالقطاع الذي من المفروض ان يساهم في تعزيز مالية الدولة ويشكل مصدر دخل إضافي، كلف الإقتصاد في السنوات العشر الأخيرة فقط نحو 34 مليار دولار، أو ما يشكل 38 في المئة من حجم الدين العام المقدر بـ 90 ملياراً. كل هذا وما زال تنفيذ خطة إنقاذ عصياً عن الحل، وليس العكس. فأصل العلة انعدام المنطق في الحلول وتقديم المصلحة الخاصة على المصلحة العامة. “نداء الوطن” ستفصّل في ثلاثة تقارير مشاكل قطاع الكهرباء. الجزء الاول سيتناول الهدر والتعرفة، والجزء الثاني خطة التغويز والانتاج والشراكة بين القطاعين العام والخاص، وسيخصص الجزء الثالث لمشاريع الطاقة البديلة.
“سينجح لبنان في تأمين خفض الانفاق عبر إجراءات طال انتظارها، منها الإصلاح في قطاع الكهرباء. وستحقق خطة التغويز التي اعتمدتها حكومتنا وفراً يصل إلى أكثر من 350 مليون دولار في العام”، قالها رئيس الحكومة حسان دياب في خطاب التخلف عن دفع ديون لبنان السيادية، مضيفاً “هذه ليست إلا البداية”.
بداية النهاية
تبنت هذه الحكومة عن سابق إصرار وتصميم خطة الكهرباء المتدحرجة منذ أيام جبران باسيل وصولاً إلى ريمون غجر، مروراً بـ سيزار أبي خيليل وندى البستاني. خطة لو قدر لها ان “تمطر” كهرباء لكانت قد “غيمت” حلولاً منطقية منذ سنوات. انما لغاية اليوم لا غيوم ولا شتاء. فالخطة ترتكز على زيادة الإنتاج، من المعامل ومحطات الغاز والسفن والبواخر.. فيما المشكلة الحقيقية هي في سوء التوزيع وارتفاع الهدرين التقني وغير التقني، وتخطي الهيئات الرقابية في التلزيمات، واستشراس السمسرات والعمولات، وتحويل الحل الموقت إلى دائم واهمال مصادر الطاقة البديلة. وعليه فان أي زيادة في الانتاج ستكون نتيجتها زيادة في الهدر وتحميل الخزينة المزيد من الأعباء.
خطة 2019
على الرغم من اعتراف أرفع مصدر حكومي بأولوية معالجة ملف الكهرباء، إلا انه منذ انطلاق الحكومة في 22/1/2020 ولغاية اللحظة لم “تضرب ضربة” بعد في الملف.
وبغض النظر عن بعض التعديلات الإيجابية التي أضيفت على الخطة الأحدث، مثل الاعتراف لأول مرة بارتفاع نسبة الهدر إلى 34 في المئة، إلا انها ما زالت تعاني نفس نقاط الضعف، وحشوها في بعض أجزائها بـ “لزوم ما لا يلزم”، يقول المهندس محمد بصبوص، “وذلك من خلال تضمينها لبنود مثل معالجة الهدر، التي لا تتطلب موافقة أو خطة من مجلس الوزراء وتعتبر من واجبات مؤسسة كهرباء لبنان، ومن ضمن عملها اليومي”.
تعايش الهدرين
يعود الفضل في اضطرار وزارة الطاقة إلى الاعتراف بنسبة الهدر، الذي بقي متواريا منذ العام 2010 إلى العام 2017 وراء ستار الخطط، إلى البنك الدولي. فالأخير خصص في تقريره المنشور في تشرين الثاني من العام 2018 فصلاً كاملاً عن الكهرباء، اعتبر فيه “ان مشكلة المشاكل في القطاع هي مجموع الهدرين التقني وغير التقني، اللذين تخطيا الـ 40 في المئة. ينقسمان تقريباً بين 17 في المئة تقني و23 غير تقني”. ذلك على الرغم من ان مجموع الهدرين بحسب دراسة قمنا بها تخطى في بعض السنوات الـ 50 في المئة”، يقول بصبوص. الهدر غير المعالج بنسبة 34 في المئة يكلف الدولة سنويا 1200 مليار ليرة لبنانية، أو ما يشكل أكثر من ثلث عجز الكهرباء سنوياً. وفي حال الاصرار على عدم اعطائه الأولوية للمعالجة فهو سيرتفع بنسبة متوازية مع زيادة الإنتاج. هذا الهدر الفضيحة يترافق مع وجود 550 مليار ليرة فواتير غير محصلة ومتراكمة لغاية العام 2019. فاذا جمعنا الهدر مع الفواتير غير المحصلة، لكانت الكهرباء وفرت على الدولة أكثر من 1.1 مليار دولار في العام 2019. عدم معالجة الهدرين بشكل جدي يطرح أكثر من علامة استفهام حول “النية” الحسنة بحل أزمة الكهرباء لمرة واحدة ونهائية وإقفال باب مغارة “علي بابا”.
زيادة التعرفة
مما تتضمنه الخطة أيضاً زيادة التعرفة. وبغض النظر ان كانت هذه التعرفة ستكون تصاعدية على الشطور وبحسب كمية الإستهلاك، فهي ما زالت تضع “العربة قبل الحصان”. فزيادة التعرفة لا ترتبط بزيادة التغذية المنوي تحقيقها، إنما تتم بشكل متناسب عكسياً inversement proportionnelle مع نسبة تخفيض الهدر. ذلك لان زيادة التغذية من دون معالجة “الهدرين” ستمتص كل الفائض، وهذا ما قدمت الباخرة الموقتة الثالثة لانتاج الطاقة، والتي وضعت بعد أخذٍ ورد في الذوق، مثالاً حياً حيث فضحت اهتراء الشبكة واختلاف التغذية الناتجة عنها بين المناطق المجاورة ضمن القضاء الواحد.