ترتسم اليوم في الأفق مؤشرات موضوعية عدة، تنذر بدخول البلاد في العتمة مع أفول العام 2020، لتُضاف إلى كل ما تعيشه من تحدّيات مالية واقتصادية، وارتفاع مخاطر الإهمال المتمادي في مجمل الإدارات والمؤسسات العامة وأجهزة الدولة وسلطاتها، والمبالغة في الإنفاق من دون وعي، واستمرار الهدر في غياب الرقابة على مختلف مستوياتها القضائية والإدارية والتشريعية، وما أدّى إليه الفشل في تنفيذ سياسات الكهرباء ومعالجة أزمتها، نتيجة الاستهتار بتطبيق القوانين وعدم احترام الأنظمة، التي أكّدت مختلف قرارات مجلس الوزراء على احترامها، فتجتمع أسباب عدة بالتوازي مع الإخفاق المخيّب للآمال، في تنفيذ مهمة التدقيق الجنائي على حسابات المصرف المركزي، لتحول دون تمكين الدولة من الاستمرار بتمويل شراء الفيول والديزل المدعوم لصالح كهرباء لبنان والبواخر وحاجات السوق المحلي من هذه المحروقات، بعد إعلان مصرف لبنان عن نفاد احتياطيه من الدولارات، وانعدام إمكانية إقرار قانون موازنة للعام 2021 يحدّد قيمة سلفة الخزينة المخصّصة فيه لكهرباء لبنان، والتي سبق أن تمّ تخفيضها من 2500 مليار إلى 1500 مليار ليرة للعام 2020، ومع إبلاغ “سوناطراك” الجزائرية عدم رغبتها بتمديد عقدها مع الدولة اللبنانية، على أثر فضيحة الفيول المغشوس التي لم تتوصل التحقيقات بشأنها إلى أي نتيجة بعد. فما هو سرّ تفاؤل وزير الطاقة واسترخاء إدارة كهرباء لبنان حيال اقتراح أية تدابير يمكن أن تساهم في خفض عجزها وإيجاد الحل؟
للإجابة عن هذا التساؤل وفك شيفرة هذين التفاؤل والاسترخاء وما يمكن أن تخفيه من تدابير قد تُتخذ، لا بدّ من العودة إلى ما تعرفنا عليه من نهج المتعاقبين على وزارة الطاقة خلال السنوات العشر الماضية من بدع. ونشير بداية إلى الموافقات الاستثنائية الجوّالة أخيراً بين القصر والسرايا، الصادرة في ظلّ اعتكاف الحكومة عن ممارسة سلطتها التنفيذية، لتجيز تمديد عقود اليد العاملة المخالفة للقانون في كهرباء لبنان ومؤسسات المياه والقاديشا، بحجة تأمين استمرارية المرفق العام. فهل يلجأ وزير الطاقة إلى الاستحصال على موافقات استثنائية لتأمين سلفة خزينة لشراء الفيول على أساس القاعدة الإثنتي عشرية، أو للسير بدفتر شروط المناقصة خلافاً لملاحظات إدارة المناقصات، أو لتأمين استمرار مصرف لبنان بدعم المحروقات بالدولار محتسباً على السعر الرسمي وتغطية تكلفتها، أكانت عن طريق “إلزام” سوناطراك بتأمين كميات موازية لـ”رصيد العقد” الذي تحدث عنه وزير الطاقة، أو بطريقة الـ Spot Cargo، التي فشل تطبيقها بالأمس، ويمكن أن تعيد تأمين حاجة المؤسسة من المحروقات إلى عدم الاستقرار كما كان قبل “سوناطراك”؟
قياساً على ما أبداه النائب حكمت ديب أخيراً، من باب الإعجاب بتميّز الوزير الأسبق سيزار أبي خليل ودقته في تطبيق الدستور والقوانين، وبعد تذكيره بمحاولته اسقاط سلف الخزينة المعطاة لكهرباء لبنان بسبب “مرور الزمن”، في معرض تقديمه اقتراح قانون لطلب سلفة خزينة اضافية للمؤسسة عينها، وفيما هو ثابت من الرأي رقم: 1 /2013 الصادر عن الجبهة الوطنية لحماية الدستور والقانون، تاريخ 19/11/2013، اعتبار “الموافقات الاستثنائية بدعة دستورية تختزل سلطة مجلس الوزراء وتشرك رئيس الجمهورية في السلطة التنفيذية، وتصدر بموجب إفادة موقّعة من المدير العام لرئاسة مجلس الوزراء منفرداً، وبعد التذكير بالطلب الذي سبق لوزير الطاقة الحالي أن طرحه على مجلس الوزراء في عزّ الانهيار المالي للدولة لتفويضه بالتباحث مع “كبار المصنّعين” بتمويل وإنشاء المعامل، بعد فشل محاولات عديدة لتمرير بدعة “دمج الحل المؤقت بالدائم”، ودفاتر شروط تمّ تفصيلها على القياس لإحياء مشروع البواخر، على وعد بإلغاء “كامل عجز مؤسسة كهرباء لبنان”. وكان أفدح ما في ذلك الطلب، هو اعتبار أنّ ما يمكن أن تفضي إليه المباحثات المذكورة هو اتفاقية تُعقد بين دولة ودولة، تحت المادة 52 من الدستور، فيما هي تجري مع شركات خاصة دون أن تكون الدولة فريقاً فيها.
نسأل من يعنيهم الأمر، أين تقع هذه الأساليب في إدارة مصالح الدولة، وما هي صلتها بحسن الإدارة والإصلاح والدقة في تطبيق الدستور والقانون؟ علّهم يقنعونني بغير ما أظن، فأعتذر عن سوء ظني.
بالرغم من كل ذلك، يمكن أن نتوقع أي معالجة استباقية للعتمة المرتقبة من هذا القبيل، قياساً على فتاوى واجتهادات عهدناها في هذا النهج، ناهيك عن فنون المناورة، كأن توضع المعاملات قيد التنفيذ لتصبح أمراً واقعاً قبل استيفائها الشروط القانونية اللازمة، على أن تُعالج لاحقاً عن طريق المصالحة في غياب المساءلة عن المخالفة، وعن المواربة وتحريف الكلام واللعب على الالفاظ أو استخدام التعابير الملتبسة، والشطارة في الصياغة والتعديلات المتكرّرة على قرارات مجلس الوزراء، واستخدام التعابير المبهمة والملتبسة لتمويه جوهر الموضوع. وهي كلها ليست حكراً على وزير طاقة واحد، وإنما هو من قواعد النهج السائد، يتوارثه كل من تمّ ترفيعه من مستشار إلى رتبة وزير.
استطراداً، نتساءل، هل تعرّف أصحاب القرار بالموافقة الاستثنائية على الطبيعة القانونية للقاديشا وعلى علاقتها بمؤسسة كهرباء لبنان، لإخراجها من قرار وقف العمل بالساعات الإضافية، وكأنّها مؤسسة عامة؟ وهل يعرفون أنّ هذه الساعات الإضافية، التي أُجيز إعطاؤها استثناءً من قرار سابق لمجلس الوزراء لا تُعطى الّا للمحظيين، بمعظمها دونما حاجة ومن دون القيام بعمل فعلي، لقاء التعويضات التي تُضاف الى أعباء كهرباء لبنان وعجزها المالي المتراكم، بموازاة تراكم كميات الفيول المستعار على حساب الخزينة، العاجزة اليوم حتى عن دفع رواتب الموظفين من إيراداتها، في وقت يجري فيه درس طلب المؤسسة من مصرف لبنان مبلغ 312 مليون دولار بالسعر الرسمي لتغطية تكاليف عقودها الباهظة مع شركات الصيانة والتشغيل ومقدّمي الخدمات وعقود الاستشاريين، فيما يستمر الهدر؟
ويحدثونك عن أسباب عدم تخلّيهم عن الطاقة “بعد كل الإنجازات” التي حققوها. بالأمس قالها النائب سليم الخوري وقبله الوزيرة ندى بستاني، التي بشرّتنا بعدم تخلّيها عن “مسؤولياتهم”، وبعدهما الوزير غجر، الذي أعلن عن رغبته بالتحدّي الذي أودى به إلى موقعه في هذه الوزارة، بالرغم من مشاكلها؟!
بالأمس طالبت “كارباور شيب” بدفع قيمة مستحقاتها بالدولار الأميركي، وأعلنت هي أيضاً عن تمسكها بمشروعها في لبنان وتعتبره تحدّياً لها، فماذا يحصل، وهل هي مستعدة لأن تخسر، أم أنّ “أرباحهم” الفاحشة خلال السنوات الماضية تسمح لهم بتفويت ربح إضافي مؤقتاً. بانتظار استئناف مكاسب سوف تأتي حتماً؟!
هناك بالتأكيد من سوف يؤيّد الموافقة الاستثنائية لتجنّب العتمة وانقطاع الكهرباء على أبواب الشتاء، ويسأل عن البديل، فأجيب إنّ ما وصلنا إليه اليوم هو نتيجة خصومة مزمنة مع القانون وسوف تستمر ما استمروا، ويستمر الفساد، وتتعمق الأزمة. فهل البلد قادر على تحمّل المزيد!
شكراً انكم تعطوننا دائماً الفرصة لتنبيه الغافلين عن أسباب استشراء الفساد في ظل الإصلاح!