ليس النزيف الحاصل في قطاع الكهرباء في لبنان مجرد تفصيل في البنية المالية والإقتصادية اللبنانية، وهو ليس مجرد ملف هامشي في إطار إعادة صياغة الأولويات في حقبة يفترض أن يكون عنوانها الأساسي الإصلاح كمدخل حتمي لاستعادة الثقة محلياً وعربياً وإقليمياً ودولياً.
لقد تحولت قضية الكهرباء في لبنان إلى قضية تمس الكرامة الإنسانية وتسبب الإحباط لدى اللبنانيين عموماً، لا سيما بعد مرور نحو ثلاثين سنة على انتهاء الحرب الأهلية. صحيح أن الحقد الإسرائيلي لم يوفّر منشآت الكهرباء في اعتداءاته المتكررة وهذا ليس غريباً عن إسرائيل التي تكره التعددية اللبنانية المناقضة لآحاديتها، ولكن الصحيح أيضاً أن لبنان كان حقق سنة 1998 القدرة على توفير الكهرباء على مدار الساعة إلى أن بدأ التقهقر وصولاً إلى قهر اللبنانيين في هذه المسألة.
لقد بلغت كلفة عجز قطاع الكهرباء نحو 41 مليار دولار يُسجّل منها 30,6 مليار دولار بين عامي 2009 و2019 أي الحقبة التي تولى فيها التيار الوطني الحر إدارة القطاع، كما يُسجل مليار و 71 مليون دولار كلفة إيجار البواخر منذ استقدامها العام 2013 (وهذا الرقم حصراً كلفة استجرار الطاقة من دون احتساب كلفة الفيول). فليتخيل القارئ ضخامة هذه الأرقام وانعكاسها على الخزينة والمالية العامة، وليتخيل حجم المعامل وقدراتها الإنتاجية التي كان من الممكن تشييدها وحل مشكلة الكهرباء جذرياً لو أحسنت الإدارة وتوفر القرار السياسي.
لقد مورست الشعبوية في الكهرباء، كما مورست في السياسة الداخلية والسياسة الخارجية والعلاقات مع الأطراف المحلية، وكما مورست في ملف النزوح السوري واللجوء الفلسطيني، وفي رفع الشعارات التي تركزت حول “الميثاقية” وإستعادة “الحقوق المهدورة” و”الرئيس القوي” وسوى ذلك من العناوين التي لم تحقق نجاحاً يذكر في أي موقع وفي طليعتها الكهرباء.
يضاف إلى كل ذلك، الرفض المتتالي لكل العروض المالية التي قدمت من الصناديق العربية، كالصندوق الكويتي للتنمية الإقتصادية العربية وهيئات تمويل عربية أخرى، وهي المعروفة بأنها تمنح قروضاً ميسرة بفوائد مخفضة وفترات سماح وآجال استحقاق طويلة، ما يجعلها عملياً أقرب لأن تكون هبة مالية وليس قرضاً. ومجدداً، كان الرفض المتكرر.
ألا يحق للمواطن اللبناني أن يسأل: لماذا الإصرار على الحلول الأكثر كلفة والأقل استدامة في قطاع الكهرباء؟ لماذا الإصرار على البواخر التي تحولّت من حل موقت إلى حل دائم؟ لماذا الإصرار على إقامة ثلاث محطات تغويز بينما دول أكبر من لبنان لا تملك هذا العدد؟ لماذا الإصرار على إقامة معمل في سلعاتا رغم عدم جدواه الإقتصادية والبيئية والتقنية والمالية؟
لكن الأخطر من كل ذلك: كيف يجوز أن تتبنى الحكومة الجديدة في بيانها الوزاري خطة الكهرباء بحرفيتها من دون تعديل أي حرف رغم إدراكها أنها فشلت فشلاً ذريعاً ولم يتحقق منها أي بند عدا عن كونها لا توفر الحلول المطلوبة ولا تتيح إنجاز أي تحول نوعي في هذا القطاع الحيوي والهام الذي استنزف الخزينة اللبنانية؟
إن إصرار بعض الأطراف على مقاربة الملفات التقنية بخلفياتها السياسية يعطل الحلول التقنية ويفاقم الخلافات الداخلية، ويعمق الشرخ بين الدولة والمواطن، فهل هي مجرد مصادفة أن يحظى وزير لبناني ورئيس تيار سياسي يفاخر أنه رئيس أكبر كتلة نيابية بهذا القدر من الرفض والشتائم (بصرف النظر عن الموقف الأخلاقي من الشتائم)، وما يحمله ذلك من دلالات بالغة الأهمية على مختلف المستويات!
لقد تكشفت الحقائق والوقائع، ولم تعد تنفع “أوراق التين” في الكهرباء أو في سواها من القطاعات الإقتصادية. للأسف، هو أداء هابط سياسياً واقتصادياً وإعلامياً… وأخلاقياً!