“قتلوا” الطاقة و”يمشون في جنازتها” مبتزّين الجميع بالظلام
وصلت كل الأمور إلى خواتيمها. “أسطورة” الليرة انتهت. شعارات المصارف بانها “أحنّ على المودع من أمه”، اندثرت. استهلاك كل ما نشتهي بسهولة، أصبح ذكرى. سد العجز من الودائع، لم يعد ممكناً. وأهم من هذا كله، فان تمويل عجز الكهرباء الذي كلف نصف الدين العام، أو ما يفوق 45 مليار دولار لم يعد يسيراً. وستُفرض عاجلاً أم آجلاً حلول بديلة.
المعادلة بين إعطاء مؤسسة الكهرباء ما تطلبه وبين التهديد بالعتمة الشاملة، دقيقة. حيث ان “غرق البلد في العتمة سيكون له تأثير سياسي كبير أعجز من ان تتحمله هذه الطبقة الحاكمة”، بحسب الخبيرة في مجال الطاقة جيسيكا عبيد. “لذا فان التوجه هو لاقرار المشرّعين السلفة أو جزءاً منها، ضاربين بعرض الحائط ما تبقى من أموال المودعين في المصرف المركزي”. ولن تنتهي هذه العملية برأيها “إلا بعد القضاء كلياً على احتياطي “المركزي” من العملات الأجنبية. حيث من الواضح انه لا يوجد أي قرار جدي بتنفيذ الاصلاحات الفعلية على أرض الواقع. وما نشهده هو متابعة لسياسة “ترقيع” القطاع المهترئ، المستمرة منذ سنوات طويلة”.
بين “الكحل” و”العمى”
لم تترك السياسات المتعاقبة لوزارة الطاقة أمام اللبنانيين إلا خيارين يتيمين: “الكحل” أو “العمى”. وفي كلتا الحالتين تستمر وزارة الطاقة بـ “ابتزاز لبنان واللبنانيين محملة غيرها مسؤولية انقطاع الكهرباء”، يقول المهندس محمد بصبوص. “مع العلم ان اللوم لا يقع إلا عليها”.
إذا تجاهلنا كل التحذيرات من العتمة، التي كانت “نداء الوطن” قد ظهّرتها في تموز العام الماضي بمقال “العودة إلى زمن القنديل”، فان المسؤولين عن الملف لم يحركوا ساكناً طوال أكثر من 8 أشهر. مع العلم ان “كل المطلوب كان تطبيق خطة الوزيرة ندى البستاني في العام 2019، التي كان من المفروض أن تؤمن اكثر من 4019 مليار ليرة”، بحسب المهندس محمد بصبوص. “لكن بدلاً من ذلك زاد القيّمون على الطاقة إمعاناً في سياسات الهدر، وتقديم المصلحة الخاصة على المصلحة العامة”. وهذا ما ظهر جلياً في الأمور التالية:
– التجديد بالتراضي لعقد شركة “برايم ساوث” المشغلة لمعملي دير عمار والزهراني، والقبول بشروطها التي تنص على وجوب الدفع لها 80 مليون دولار.
– التربيت على “كتف” البواخر ووعدها بالتجديد لها وتأمين مستحقاتها التي تفوق 180 مليون دولار بالنقد الصعب.
– قول الشيء ونقيضه بما خص الكميات المتوفرة من الفيول، والتي كانت تكفي بحسب تصاريح وزير الطاقة قبل مدة وجيزة لحوالى 6 أشهر.
– إطلاق “بروباغندا” إعلانية بامكانية تأمين الفيول بكميات كبيرة من العراق. اثبتت التجربة انها لم تكن سوى قنبلة صوتية.
عالوعد يا إصلاح
عدا عن ان مبلغ المليار دولار المطلوب تأمينه من الدولة ومصرف لبنان، لا يتطابق بأي شكل من الأشكال مع مفهوم السلفة، فهو يتناقض بحسب بصبوص، “مع خطة وادعاءات الوزيرة ندى البستاني، التي أكدت ان تخفيض الهدر وتحصيل المتأخرات سينفيان الحاجة إلى طلب السلف”. فالوزيرة كانت قد وعدت آنذاك بتخفيض الهدر من 37 في المئة إلى 11 في المئة، (كل تخفيض في الهدر بنسبة 1 في المئة يؤمن وفراً بقيمة 34 مليون دولار)، وتحصيل فواتير متأخرة بقيمة 550 مليار ليرة من الأفراد، وبقيمة 1820 مليار ليرة من الإدارات العامة ومصالح المياه والمصالح المستقلة. ذلك مع العلم ان تخفيض الهدر وجمع المتأخرات لا يتطلبان خطة. فهما يجب ان يكونا من ضمن الواجبات الأساسية لمؤسسة كهرباء لبنان.
الفيول حجة!
هذا الواقع يستوجب طرح سؤالين أساسيين قبل الشروع باقرار أي ليرة للكهرباء. الأول عن مصير الوعد الذي أطلقته زميلة الوزير الحالي. والثاني عما إذا كان المبلغ المطلوب هو فقط للفيول كما يدّعون.
الإجابة عن هذين السؤالين مخيبة للآمال. فالوعود نكث بها على غرار كل الوعود التي أطلقت منذ العام 2008. و”لو قدر الإيفاء بجزء منها لكان باستطاعة الكهرباء تكوين احتياطي من الفيول كاف لفترة طويلة”، يقول بصبوص. “خصوصاً مع كل الانخفاضات التي حدثت بأسعار النفط العالمية في العام الماضي”. أما في ما خص المساعدة المطلوبة بقيمة مليار دولار، “فسيذهب جزء كبير منها لتمويل البواخر وشركات تشغيل المعامل، لانها ببساطة تمثل مزاريب الإستفادة الخلفية للمسؤولين عن ملف الكهرباء”. والاخطر برأي بصبوص ان “هذه الأموال ستنفق من دون حسيب أو رقيب. وبعيداً من متابعة مصرف لبنان الذي سيدفع المبالغ من أموال المودعين”. وعليه فان كل ما يجري مخطط له بدقة، وهو يصب في خانة الابتزاز لاستمرار نفس السياسات التي أوصلتنا إلى هذا الواقع المرير.
الحل متعذّر
أمام هذا الواقع المحبط “لا يوجد أي حل، سواء كان يعتمد على معامل الفيول أو الغاز أو حتى الطاقة النظيفة، من دون حكومة قادرة وتأمين التمويل اللازم”، من وجهة نظر عبيد. والاتجاه المستقبلي يبدو أنه سيكون لمصلحة “الأمن الطاقوي الذاتي”. حيث ستعمد كل منطقة أو حي أو قرية لتأمين ساعات من التغذية الكهربائية بما يتناسب مع واقعها وظروف اهلها المادية. ولكن الطريق ليس وردياً كما يتخيل البعض، “فكل مستلزمات الطاقة يجب أن تؤمن من الخارج وبالنقد الصعب. وهذا ما يعزز بحسب عبيد “خروج ما تبقى من دولارات”. إلا ان الخطوة الأولى يجب ان تكون بتعزيز الطاقة البديلة المتمثلة أساساً بالطاقة الشمسية وكيفية استغلالها بأحسن الطرق. حيث من الممكن أن يكون هناك محطات مشتركة تدمج المولدات الخاصة مع الطاقة الشمسية، وتستفيد من شبكة هذه المولدات الممدودة في كل مكان. لكن هذا يتطلب بداية إقرار قانون “لامركزية الطاقة” في مجلس النواب.
لا بديل عن “الكهرباء” حالياً
لغاية اليوم ما زالت الاستثمارات في الطاقة البديلة خجولة جداً، وهي لا تغطي بحسب خبير اقتصاد النفط والغاز فادي جواد “احتياجات العاصمة والمناطق. هذا بالإضافة إلى عدم وجود شبكة متطورة تواكب توزيع الطاقة البديلة. فهكذا مشاريع طويلة المدى، تحتاج لشركات عالمية لتمويلها”. وبحسب معلومات جواد فان “الصناديق الاستثمارية والسيادية العربية مستعدة للدخول بمشاريع مستدامة فقط تحت ادارة رشيدة ونزيهة وتخضع لمعايير الحوكمة العالمية لضمان استثماراتها”. وهذا ما ليس متوفراً. لغاية اللحظة يبدو ان جميع المبادرات الفردية لن تنجح في إيجاد الحلول. فحتى الطاقة الشمسية لن تنفع مع عدم القدرة على تأمين ساعات تموين كهرباء فعلية تساندها. خصوصاً ان “مشكلة تخزين الطاقة ما زالت متعذرة في ظل عدم وجود الاجهزة والتقنيات المتطورة وبسبب عدم توفر “الفريش” دولار لتعزيز هذه الصناعة”.
العتمة الكاملة
كما جرت العادة يجري التعامل مع المشاريع الكبرى بسياسة “الترقيع”، يعلق جواد. حتى وصلنا الى معالجة جميع الامور المصيرية بأسلوب “الدكان”. وما يحصل اليوم برأيه هو “نتيجة لفشل جميع الإدارات التي تعاقبت على هذا الملف، واوصلت قطاع الكهرباء للاهتراء المتكامل! وبرأيه فان “طلب السلفة سيصل الى طريق مسدود. ولبنان متجه نحو “العتمة الكاملة” بسبب عدم وجود سيولة لدى الحكومة ومصرف لبنان. فالأخير يتحاشى استعمال ما بقي من مليارات تمثل “الذخيرة” الاخيرة المملوكة من البنوك، لا يحق له التصرف بها. هذا إن كانت لا تزال موجودة فعلياً! فالاكيد بحسب جواد ان “لا قدرة للبنان، ولا لمصرفه المركزي على استيراد الفيول بـ”الفريش” دولار، ولا على تشغيل المعامل وصيانتها، ولا على دفع المستحقات للشركات التي تديرها، في ظل انهيار اقتصادي متكامل للدولة وخزينتها. و”ما أراه هو ايام سوداء اكثر قتامة قادمة على لبنان تضاف الى عتمة الكهرباء المرتقبة”، يقول جواد.
على حد القول المأثور “إذا ما خربت ما بتعمر” يذهب الكثيرون باتجاه التصدي لابتزاز وزارة الطاقة ولو انقطعت الكهرباء. فالإستمرار بـ”مسايرتها” خوفاً من العتمة سيشجعها على مواصلة سياساتها الهدامة… ولن يؤمن الكهرباء.