مرّة جديدة، للمرّة العشرين ربّما، يعود أركان السلطة الى مناقشة خطّة الكهرباء. وللمرّة العشرين نستمع الى خطط 24/24. نحن تعبنا وهم لم يتعبوا. تعبنا من خفّتهم، من عبثهم، من غياب روح المسؤولية عندهم، من لامبالاتهم حيال معاناة الناس. هم لم يتعبوا، فقصورهم مضاءة، وقطاع الكهرباء يدرّ عليهم الملايين، وهم مستمرّون في سياساتهم هذه، شاء من شاء وأبى من أبى. إنها 40 مليار دولار تبخّرت في هذا الملف منذ عام 1993، وما تزال سلف الخزينة المليونية تتبخّر من أموال الشعب، وهم الآن يطالبون بسلفة جديدة. هل يعقل أننا منذ أكثر من ثلاثين عاماً نبقى عاجزين عن تأمين الكهرباء، في وقت بات الكلّ يعلم أنها تتطلب فقط قراراً سياسياً لا غير؟
كثيرة هي المبادرات التي سعت الى حلّ هذه المشكلة، منها ما أطلقها القطاع الخاص الداخلي، لا سيّما الصناعيّون، الذين أبدوا استعداداً لتمويل خطة إصلاح شاملة للقطاع لأنها تستجيب لحاجتهم، لكن جاءهم الرفض من القيّمين على إدارة الدولة.
دول كثيرة، شرقية وغربية، اقترحت هي أيضاً حلولاً لهذه الأزمة، ومنها ما هو سريع التنفيذ في غضون أشهر. لكن أيضاً جُوبهت بالرفض من المسؤولين في الدولة.
بات مكشوفاً أن قطاع الكهرباء يدرّ على القيّمين على الملف الملايين، ليس فقط من خلال سلف الموازنة، فهناك مداخيل متشعّبة من خلال صفقات الفيول والبواخر والمعامل، وعمولات استيراد المازوت والشركات العاملة في قطاع النفط. ولم ينسَ اللبنانيون بعد فضائح الفيول المغشوش والفواتير الوهمية وإن كانت قد نامت في جوارير القضاء بعدما استعملها البعض في إطار تقاسم الغنائم.
وتوسّعت فضائح الكهرباء الى أن شملت قطاع المولّدات الخاصة التي فتحت هي أيضاً باباً جديداً لسرقة اللبنانيين وإذلالهم، وسمحت بقطاع جديد للنهب والتجارة والسمسرات. صحيفة لوموند الفرنسية خصّصت يوم الأربعاء الماضي صفحة كاملة لموضوع الكهرباء في لبنان، مع إشارة لها في صفحتها الأولى وعَنونتها: «اللبنانيون تحت رحمة مافيا المولّدات»، شارحة كيف شرّعت الدولة عمل هؤلاء وكيف يحظون بحماية الزعماء السياسيين.
القانون المفترض أن ينظّم قطاع الكهرباء وهو القانون رقم ٤٦٢ الذي صدر عام ٢٠٠٢ ولم يطبّق بعد، والوزراء المتعاقبون على قطاع الكهرباء يرفضون العمل به. فهو ينصّ على إنشاء «هيئة تنظيم قطاع الكهرباء» ما يعني أن الوزير المعني يفقد القدرة على التحكم بصفقات القطاع. ما زالوا يرفضون تعيين هذه اللجنة الناظمة كي لا يفلت ملف العمولات والسمسرات من أيديهم.
إنها ليست أزمة كهرباء، إنها أزمة إدارة دولة وإدارة الشأن العام. إذ يمكن تعميم حال أزمة الكهرباء على كل أزمات الدولة، ويمكن استنتاج واقع الدولة اللبنانية من خلالها:
– انها أزمة دولة لا تطبّق قوانينها،
– انها أزمة رجال دولة فاشلين أو فاسدين في ادارة قطاعات الشأن العام،
– انها أزمة مؤسسات رقابية معطلة،
– انها أزمة نظام سياسي يتحكّم به بضعة اشخاص فيسيّرون الدولة وفق مصالحهم الذاتية،
– انها أزمة قضاء لا يُسائل سارقي المال العام،
– انها أزمة أخلاق وممارسات لا تنبذ الفاشلين والناهبين في تعاطي الشأن العام.
لا نحلمنّ بإصلاح، ولا نأملنّ بخروج من الأزمات المتلاحقة التي نعيشها، ولا ببناء دولة ولا بإعادة إحياء المؤسسات. هذه المنظومة السياسية لا تهتمّ بالشأن العام، لا تهتمّ بأوضاع شعبها، ولا تسعى الى اعادة بناء دولة. انها منظومة الكراسي المخمليّة والقصور الفاخرة والحسابات السويسرية ومماحكات السلطة. وما عدا ذلك لا شيء. لم تحرّكهم مأساة العائلات اللبنانية الفقيرة والجائعة والمذلولة، ولا الامّهات اللواتي يبحثن عن حليب لأطفالهن، ولا مرضى السرطان المحرومين من دوائهم، ولا العجزة غير القادرين على شراء دوائهم. انهم لن يخجلوا من الإستمرار في نهب الدولة من خلال قطاع الكهرباء والإتصالات والأملاك العامة والقطاعات الكثيرة الاخرى. ان قطاع الكهرباء هو دليل ساطع على ممارسات المنظومة الحاكمة وطرق عملها في ممارسة السلطة.
إن مفهوم إدارة الشأن العام يعني خدمة الشعب، فيما المنظومة الحاكمة حوّلت القطاع العام في خدمتها، وخدمة زبانيتها. وأبعد من قطاع الكهرباء حوّلت إدارات الدولة الى مزارع تتقاسمها. حتى القضاء يريدونه مزرعة ليتحكّموا بالناس ويبرّئون انفسهم من ممارستهم وموبقاتهم. فأمام دولة عاجزة عن تأمين الكهرباء لشعبها منذ عشرات السنين هل يمكننا أن نطلب منها أمورا أهم وأخطر من هذا؟ هل يمكننا ان نطلب منها مشاريع تنموية واقتصادية، أو ضبط الحدود، أو استعادة الأموال المنهوبة أو بسط سلطة الدولة على كامل أراضيها!! من يعجز عن الأمور البسيطة هل يمكن مطالبته بالأمور الهامة؟
ليست هذه المنظومة من سيجترح حلولا لمشاكل لبنان لا في الكهرباء ولا في غيرها. ليست هي من سيعيد بناء الدولة. ولا حلول لأزماتنا طالما هي ممسكة بالقرار السياسي.