بقلم غسان بيضون ـ
لا شك في أنّ انخفاض أسعار النفط العالمي إلى ما دون الـ 30 دولاراً، التي كانت عليها أسعار النفط العالمية خلال الربع الثاني من التسعينات، حيث تمّ إقرار التعرفة المعتمدة حالياً، هو تطور أساسي ومهم، يمكن أن يساهم، إلى حد بعيد، في معالجة مشكلة عدم توازن مؤسسة كهرباء لبنان مالياً، ويخفّض حاجتها إلى مساهمة من الدولة؛ غير أنّه لا يكفي، ولا سيما أنّ المؤسسة لا تتحمّل حالياً أي قرش من تكلفة المحروقات اللازمة لتشغيل معاملها والبواخر، لا بل أنّها لا تكتفي بتحميل الخزينة هذه التكلفة، فهي تطالب الدولة منذ سنوات بتغطية فائض عجزها من مختلف مصادره.
ماذا يعني أن تؤمّن تعرفة مبيع الكهرباء التوازن المالي للمؤسسة؟ تشكّل إيرادات المؤسسة من مبيع الطاقة المورد الأساس للموازنة السنوية للمؤسسة. وعندما تكون هذه الإيرادات كافية لتغطية مجموع النفقات المقابلة لها في الموازنة، يتحقق التوازن المالي فيها، وإلّا تلجأ المؤسسة إلى إيجاد مصادر بديلة لتأمين هذا التوازن في حال عدم كفاية الإيرادات، كأن تلجأ إلى زيادة التعرفة أو تسعى للحصول على سلف خزينة لتغذية صناديقها على أن تسدّد هذه السلفة من وفر الموازنة أو الموازنات المقبلة.
وفيما كانت تعرفة مبيع الطاقة المطبّقة حالياً كافية لتأمين التوازن المالي للمؤسسة يوم إقرارها، حيث كان سعر النفط العالمي قريباً من الـ 30 دولاراً للطن، فهي لم تعد كذلك بعد مرور كل تلك السنوات، وذلك لسبب بسيط، هو أنّ أعباء المؤسسة الأخرى من غير تكلفة المحروقات قد ارتفعت قيمتها بفعل الزيادات التي طالتها منذ ذلك التاريخ، بما فيه أعباء المستخدمين وما استُجد من أعباء على المؤسسة لم تكن قائمة قبل، لتُضاف إلى أعبائها التشغيلية، وأهمها بدلات تحويل الطاقة بواسطة البواخر وتكلفة خدمات التوزيع التي باتت تتولاها شركات مقدّمي الخدمات بكلفة أعلى مما لو كانت المؤسسة ما زالت تتولاها بواسطة مديريتي التوزيع فيها.
ومع هذه الأعباء ارتفعت تكلفة عقود تشغيل معامل الإنتاج وصيانتها، وتكلفة قطع الغيار بالتراضي وبواسطة «وكيل الشركة الصانعة»، بما يمكن أن ينطوي عليه من عمولة وأعباء وساطة، ولا سيما أنّها بالعملة الأجنبية وبمئات ملايين الدولارات، والتي بدورها ارتفعت تكلفة تأمينها مع ارتفاع سعر الصرف، بحيث تضاعفت قيمتها بالليرة ولم يعد ممكناً تأمينها بسهولة، بما فيه ثمن الفيول الذي يستهلك احتياطي مصرف لبنان، خصوصاً وأنّ التعرفة يُفترض أن تبقى ثابتة ما لم تتأمّن التغذية الكاملة، على أن لا ننسى آخر فضائح الفيول المغشوش وقبله سرقة المازوت المتمادية خلال سنوات، وغيرها من نتائج الفوضى والإهمال السائدة في إدارة شؤون المؤسسة وتأمين حاجاتها.
كل ذلك في وقت يسود فيه الغموض حقيقة الأوضاع المالية لمؤسسة كهرباء لبنان، التي تعيش حالة فوضى وتقصير وفلتان على مختلف المستويات، تحت إشراف مجلس إدارة انتهت ولايته، وما بقي فيه سوى ثلاثة أعضاء من أصل سبعة، تحت رعاية وإدارة وإشراف وتدخّل وزراء الطاقة المباشر يومياً، وفي أبسط الشؤون التي تقع ضمن صلاحية مجلس الإدارة المذكور، في غياب أية رقابة جدّية فاعلة، لا داخلية ولا خارجية، والمفترض أنّها تشمل رقابة وزارة الوصاية من خلال مفوض الحكومة ووزارة المالية من خلال المراقب المالي، والتفتيش المركزي من خلال المفتش المالي، بدليل استمرار هذا التردّي دون أن نسمع صوتاً يعترض على تصرّف أو تلزيم أو قرار من أي من هذه الجهات، ناهيك عن تعليق رقابة ديوان المحاسبة المؤخّرة على المؤسسة أقلّه منذ أربعين سنة.
ولكي تكتمل الصورة الرقابية على هذه المؤسسة الدسمة لا بدّ من الإشارة إلى أمرين هما: تأخّر رقابة مكاتب التدقيق المحاسبي، التي تقتصر مهمتها على حساب النتيجة والميزانية دون قطع الحساب، ما زالت في تصحيح أخطاء جوهرية وهامة شملت حسابات 2010 وما قبلها. أما الثانية فهي شلل مديرية الرقابة الذاتية بسبب الغضب الذي طال مديرها المتقاعد حديثاً، بسبب اعتراضه على مشروع مقدّمي الخدمات. يُضاف إلى ذلك، بقاء مشكلة زيادة الإنتاج وبناء معامل جديدة بتمويل خارجي أو من القطاع الخاص على حالها، مع انعدام الثقة بقدرة الدولة اللبنانية ومؤسساتها على السداد، واستحالة تأمين أي تمويل في هذه الظروف من أي مصدر غير الإعانات برعاية دولية.
ولا بدّ من الإشارة هنا إلى سقوط إمكانية إحياء مشروع معمل دير عمار 2 وغموض مصير تلزيم إنتاج الطاقة من الرياح ومعه مناقصة تلزيم إنتاج الطاقة الشمسية. فكيف نأمل بإنقاذ قطاع تحت إدارة هكذا نهج عقيم، أضاع فرصاً ثمينة في ظروف أفضل، وقضى بإبقاء البلد في العتمة، ما لم تتوفر له ما يكفي من الحرّية والتفويض لتنفيذ الخطط على هوى «هيئة الوزراء» الحاكمة والمتحكّمة بشؤون ومستقبل المؤسسة والقطاع، وبما يحقّق غايات خاصة وخفية. ألم تسمعوا ببدعة تشكيل الوزير هيئته الاستشارية وتحويل الوزارة إلى «متصرفية»! أليس غريباً أن يكون في هذه الهيئة أحد أعضاء مجلس إدارة مؤسسة كهرباء لبنان المستقيلين؟! باعتبار أنّ الخزينة هي التي تتحمّل، حالياً، كامل تكلفة المحروقات عن المؤسسة، بحيث تذهب الإيرادات المتأتية من تعرفة مبيع الطاقة بكاملها لتغطية نفقات موازنة المؤسسة الأخرى من غير المحروقات.
وبافتراض أنّ انخفاض أسعار النفط سوف يستمر، بما يسمح باعتماد تعرفة متغيّرة لا تتجاوز التعرفة الحالية، ما دام الإنتاج على حاله، فإنّ السؤال الباقي يبحث عن إجابة عنه هو: من يتحمّل أعباء الهدر في الإدارة وطرق الإنتاج ونوعية الفيول وفي تكاليف العقود وفي الطاقة الموزعة وعن النازحين؟ هل يجوز أن تستمر مؤسسة بهذه الأهمية في تحميل خزينة الدولة منذ عشرات السنين أكثر من مليار ونصف المليار دولار سنوياً من دون إعداد حسابات وقطوعات حسابات ضمن المِهل النظامية، وأن تبقى بلا رقابة تُمارس في الوقت المناسب؟!
من خبرتي العميقة والواسعة بأوضاع المؤسسة وشؤونها وأداء وزارة الطاقة والمياه، أرى أنّ الحكومة أمام فرصة مهمة لإنقاذ المؤسسة، وظروف أفضل لتطوير أوضاع قطاع الكهرباء وإدارته، مع انخفاض أسعار النفط. فهل من يسمع ويستفيد؟