سياسة الكذب على اللبنانيين مستمرة في فصولها المختلفة لا سيّما في قطاع الكهرباء والطاقة الذي بات يرقى إلى مستوى الأزمة الوطنيّة الكبرى، نتيجة الإخفاقات المتتالية في إيجاد الحلول المناسبة له على مدى سنوات طويلة رغم أنّه ملف تقني بالدرجة الأولى، أو أقلّه هكذا يفترض أن يكون!
إن الإصرار على مقاربة هذا الملف بخلفيّات سياسيّة وليس تقنيّة هو ما أدّى عمليّاً إلى تعطيل الحلول المطلوبة وجعل تكاليفه الباهظة ترهق كاهل الخزينة والموازنات المتلاحقة، من دون تحقيق الهدف المنشود ألا وهو توفير الطاقة للبنانيين أسوة بما تقوم به كل دول العالم، وهو من أبسط الخدمات (ولا يمكن تصنيفه ضمن «حقوق المواطن» لأنه أبسط من ذلك بكثير).
من الكذبات الكبرى التي لُفّقت للبنانيين هي أنّ وزارة الطاقة والمياه حُرمت على مرّ السنين من إمدادها بالأموال المطلوبة للقيام بدورها في توفير الكهرباء؟ ماذا عن الملياري دولار سنوياً التي كانت تُصرف لها إما بواسطة سلفات الخزينة أو من ضمن الموازنة العامة؟ من موّل السفن التركيّة التي رُبضت على الشاطئ اللبناني لسنوات عديدة بينما كانت مهمتها مؤقتة لثلاث سنوات فقط، وصارت عقودها تمدد نتيجة الفشل في تطبيق خطط الكهرباء المتلاحقة؟
واستطراداً، من رفض التفاوض مع الصناديق العربيّة (مثل الصندوق الكويتي والصندوق السعودي والصندوق العربي) التي أبدت استعدادها مراراً وتكراراً لمساعدة لبنان على معالجة جذريّة لمشكلة الكهرباء، من خلال تقديم قروض ميسرة بفوائد متدنية جداً (تجعلها أقرب لأن تكون هبة وليست قرضاً) وفترات سماح تصل إلى خمس سنوات وفترات سداد طويلة تصل إلى ثلاثين عاماً؟ أليست الشفافيّة التي تعمل بموجبها تلك الصناديق هي التي دفعت الجهات القيّمة على وزارة الطاقة أقلّه منذ العام 2008 لرفض جميع تلك العروض المناسبة جداً لحاجات لبنان ووضعه المالي؟
الأرقام مذهلة بالمناسبة وهي التي تدحض كلّ المزاعم بغياب التمويل عن مشاريع الكهرباء. إنّ مجموع التحويلات الماليّة إلى مؤسسة «كهرباء لبنان» بين عامي 1992 و2007 (قبل إستلام «التيار الوطني الحر» للوزارة) بلغت نحو 8,511 مليار دولار أي ما نسبته 20,5 بالمئة من قيمة التحويلات الإجماليّة؛ بينما بلغت قيمة التحويلات بين عامي 2008 و2019 نحو 32,9 مليار دولار أي ما نسبته 79,47 بالمئة. وتشمل هذه المبالغ خدمة الدين التي غالباً ما يتغاضى عنها «التياريون»!
فكيف يستوي المنطق القائل إنّ المؤسسة لم تنلْ الدعم المالي المطلوب خلال هذه السنوات؟ وهل يمكن تناسي حقبة أواخر التسعينات، لا سيّما سنة 1998، حيث بلغت نسبة التغذية 24 ساعة يومياً في معظم المناطق اللبنانيّة؟
إن الإصرار على ربط إطلاق أي خطة كهربائيّة بالموافقة المسبقة على إقامة معمل جديد في سلعاتا كان السبب الرئيسي في عدم قيام وزراء الطاقة بتنفيذ خطة الكهرباء، رغم معرفتهم أنّ الجدوى الإقتصاديّة والهندسيّة من إقامتها معدومة، ولكن طغت «الجدوى الشعبويّة» على ما عداها في هذا المجال، بالإضافة طبعاً إلى الأفكار الطائفيّة والتقسيميّة التي تسيطر على سلوكيّات ذاك الفريق.
والفريق ذاته عطّل تشكيل الهيئة الناظمة للقطاع، وهي من المطالب الإصلاحيّة الأساسيّة، بهدف تعديل القانون لتعديل صلاحياتها وإفراغها من مضمونها ليُبقي الصلاحيّات بيد الوزير، ما يتيح إستمرار التدخلات والصفقات والسمسرات!
إذا كان رفع التعرفة الكهربائيّة بات «الشرّ الذي لا بدّ منه» نتيجة إنهيار قيمة العملة الوطنيّة اللبنانيّة والتراجع الدراماتيكي لمداخيل مؤسسة كهرباء لبنان، فإنّ عدم إقرانه بإصلاحات هيكليّة جديّة في القطاع يعني عمليّاً المزيد من الهدر من دون طائل. أمّا الكلام عن الساعات العشر من التغذية لا يعدو كونه كذبة متممة لسياسة الكذب والنفاق على اللبنانيين.