المعمل أُطفئ وممتلكاته عادت للرهبانية الشويرية
في ظل الكلفة الباهظة التي فرضها إرتفاع سعر الدولار على مادة المازوت المستخدمة بتوليد الطاقة في ساعات التقنين بمدينة زحلة، يتحسر أهالي منطقة وادي العرائش على زمن، ليس ببعيد، كانوا خلاله لا يزالون ينعمون بتغذية مستدامة توفرها المنشآت الأساسية لشركة كهرباء زحلة، من خلال توليد الطاقة بقوة دفع مياه البردوني.
فتاريخ إنتاج الطاقة في زحلة يرتبط بالأفكار التي ولدت منذ بداية القرن العشرين لكيفية الاستفادة من مياه نهر البردوني “الهدارة” حينها، وكانت تجري بانحدار 1350 متراً من منبعها. في تلك الفترة جرى تبني دراسة قدمها الاب يعقوب الرياشي، كاهن الرهبانية الباسيلية الشويرية الذي كان ايضاً من مؤسسي الكلية الشرقية وفندق قادري الكبير. وكان همه الإستفادة من أملاك وقف دير مار الياس الطوق التي تمتد غرباً باتجاه وادي العرائش بجوار نهر البردوني مباشرة.
منذ سنة 1907 إتخذت هذه الدراسات منحى عملياً من خلال إجتماع جمع الرياشي مع عضو مجلس ادارة متصرفية جبل لبنان حينها يوسف البريدي وقائمقامها ابراهيم ابو خاطر والمهندس سالم رياشي بحث في امكانية الاستفادة من مياه البردوني المتدفقة على بعد خمسة كيلومترات من زحلة بمنسوب مائي يبقى صالحاً لتوليد القوة الكهربائية في اشد أشهر السنة جفافاً. وبالفعل، كلف مجلس الادارة لجنة متخصصة بدراسة مشروع وافق عليه في سنة 1910، وحوّله الى المراجع العليا في الآستانة وقد تمكّن الاب يعقوب الرياشي سنة 1912 من انتزاع فرمانها الـ “شاهيني” بإمتياز حدّدت مدته 70 سنة.
تعاقد الاب رياشي مع شركة “والتر سيجار” على تأسيس شركة مساهمة مغفلة برأسمال 20 الف ليرة عثمانية موزعة على 20 الف سهم. ومع ان نشوء الحرب العالمية الاولى حال دون تنفيذ المشروع، اصر الاب رياشي على السير به حتى بعد انتخابه رئيساً عاماً للرهبنة الشويرية في سنة 1917، وبذل جهوداً مع شريكه البريدي عند بداية عهد الانتداب، الى ان بدأ تنفيذ المشروع منذ العام 1920.
في شباط 1927 تم تدشين “الشركة الكبرى لكهرباء زحلة”، وإعتبرت الشركة المصدر الوحيد للطاقة في زحلة، ليتمكن هذا المعمل المائي بعد إستحداث محطة لتوليد الطاقة في بلدة الكرك بمدينة زحلة أيضاً، بعد فترة، من تأمين كفاية زحلة ونطاقها للكهرباء حتى سنة 1969، حينها نعمت مؤسسة كهرباء لبنان بفائض إنتاج جعلها تتخذ قراراً يحصر التغذية بها، وحدد مهمة شركة كهرباء زحلة بتوزيع الطاقة فقط من دون توليدها، وبتأمين اعمال الصيانة.
وكانت شركة كهرباء زحلة قد حافظت على المعمل المائي خلال فترة الإمتياز، وإستمرت بتشغيله بمنفذ واحد من منافذه الثلاثة، أو “عين” كما يسميها أهالي وادي العرائش. ووزع إنتاج المعمل على منطقة وادي العرائش وصولاً الى مطعم “مونتي البيرتو” ومروراً بمقاهي البردوني، ما سمح لهذه المنطقة بأن تنعم بالتغذية لـ 24 ساعة متواصلة، حتى بعدما وقعت مؤسسة كهرباء لبنان بعجز طويل خفض تغذيتها لمختلف المناطق اللبنانية، وبكلفة أقل من الكلفة التي تكبدها معظم أهالي مدينة زحلة الذين إعتمدوا بداية على مولدات الأحياء.
حتى سنة 2014 كان هذا المعمل لا يزال شغالاً، ويغذي المنطقة المذكورة إبتداء من نهاية كانون الأول حتى شهر آب من كل سنة، وهو يرتبط ببركة مياه، يسميها ابناء البلدة بالـ”محقان”، تؤمن درجة تدفق المياه المطلوبة الى المعمل لتشغيله في موسم الشحائح خصوصاً. علماً أن تشغيل المعمل إستمر حتى ما بعد إنتهاء مهلة إمتياز شركة كهرباء زحلة في تسعينات القرن الماضي. في هذه الفترة، بدأت الشركة تبحث في كيفية تأمين الكهرباء 24 ساعة متواصلة، الى أن صدر قانون ينظّم قطاع الكهرباء ويسمح من خلال بعض التعديلات بمنح اذونات وتراخيص الانتاج بقرارات من مجلس الوزراء، بناء على اقتراح وزير الطاقة لسنة واحدة… فإنتزع مدير عام الشركة أسعد نكد مذكرة تفاهم من وزارة الطاقة تسمح لشركة كهرباء زحلة باستكمال كل الاجراءات المطلوبة للحصول على رخصة الانتاج. واستكملت المذكرة بموافقات بيئية واجراءات ورقية، إستغرق إنجازها نحو ثماني سنوات حتى بدأ تطبيقها سنة2014. وعندها إنتقلت شركة كهرباء زحلة عملياً الى مرحلة الإنتاج بالمازوت وتوقف معمل المياه نهائياً.
في جولة ميدانية على بعض منشآت المعمل، يتبين خروجه عن العمل منذ فترة، وينعكس ذلك خصوصاً من خلال الحشائش التي إجتاحت “محقان” المياه التي كان تدفقها يؤمّن التغذية.
لدى مراجعة أهالي وادي العرائش للشركة لمطالبتها بإستمرار تشغيل المعمل الذي يؤمن التغذية بكلفة اقل، تبلغوا عدم إمكانية تجزئة الفواتير والتمييز بين حي وآخر، بعدما أصبحت الشركة ملزمة بالتسعيرة المحددة من وزارة الطاقة.
وعليه، سلم الاهالي بهذا الواقع طالما أن التغذية إستمرت متواصلة، الى أن دخلت زحلة في مرحلة التقنين، فعادت المطالبات في وادي العرائش بتشغيل المعمل. ولدى مراجعة الشركة بالأمر ذكرت أنها لم تعد تملك سلطة عليه بعدما إستعادت الرهبنة الشويرية أملاكها.
يعكس معمل إنتاج الكهرباء بواسطة مياه البردوني إذاً، “بعد نظر” كان يتمتع به من تسلموا مواقع القرار، للإستفادة من الموارد الطبيعية في تأمين الحاجات الأساسية للمواطنين، قبل أن يطغى على مجتمعاتنا اللبنانية عموماً الطابع الإستهلاكي، فأهملت هذه الموارد وخبا دورها، قبل أن تتوضح أهميتها مجدداً في زمننا الحالي.
إلا أنه في وادي العرائش ما زالت العين على هذا المعمل، خصوصاً أن هناك “عيناً من العيون الثلاث لا تزال شغّالة، ويمكن أن توفر التغذية لنحو 300 وحدة سكنية في البلدة، ما يخفف أعباء الفواتير الباهظة التي فرضها إرتفاع كلفة المازوت عليهم، وبرأيهم أن أي حل مستدام لمشكلة الكهرباء يتطلب تعميم تجربة الإستثمار بالموارد الطبيعية، وليس العكس.