تَرجَّحْتُ في اختيار العنوان بين كَلِمَتْي لباقة وأناقة، فَرسَا القلم على الثانية، لأن الأناقة لا ينصرف معناها إلى الملبس فقط، بل هي تشمل في ما تشمل اللفظ والكياسة والتصرف والكتابة، فيما اللباقة جزء مما ذكرت، بل إن كثيراً من اللبقين ينتهي تأثيرهم عليك بعد اللقاء الأول. أما الأنيق فهو من تناسقت أفكاره، وتجددت بتجدد الأيام، وظلت أمينة على الأصالة، ورفيقة بمن شعَّث الشباب مظهره، فما أنكرته ولا تركته يُشَعِّثُها، بل نصبت له شبكة أمانٍ حنون، وشيدت له فضاءً يستوعب صدى قلقه.
كأني بهذا التقديم أتحدث عن علاقتي بجان عبيد التي تمتد أُخُوُّةً، إلى ما يزيد على أربعة عقود، حيث كان حِلُمُهُ مأوىً لِنَزَقي، ورجاحته زماماً لِغُلُوِّي، وصداقته بستاناً تجري من تحته الأنهار، وتتزين أعناق أشجاره بربطات عنق أنيقة، وتنضج على أكمامها الثمار، سبحات من الكهرمان “لا تفرُّ من البنان”.
أما مناسبة المقال، وهو لا يفيده في شيء، لأن الشاهد لا يشهدُ لأهله، فهي تلك الكلمات الموجزات المحكمات التي قالها بعد لقاء غبطة الراعي، بعد صمت طويل متعمد، فأراد بها أن يرد النصاب إلى الصواب، ويؤكد أنه يستطيع بومضة خاطفة أن يضيء شاشة الذاكرة بشريط باذخ من المواقف والأعمال حفلت به حياته العصامية الراقية التي تشع ثقافة وشعراً ولباقة، وتفانياً في خدمة الاصدقاء، وتدفقاً في النصائح المصيبة، ومهارة في صياغة السياسات، ووفاءً لمن بادله الوفاء أو ناصبه العداء، لأن ذاكرته تستخرج دائماً لهولاء حسنة فيهم أو في أسلافهم، وتلتمس العذر للمسيء، وكانت حكمته في هذا، ما كان يردده في كل مناسبة:
“أحبب حبيبك هونا ما.. وابغض عدوك هوناً ما…”
وما جاء في الذكر:
“وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ “.
قال جان عبيد صراحةً، “أودعت أسراري لدى صاحب الغبطة، والمهم بالنسبة إلي أن يكون للبنان رئيس”؛ وقال مواربة “لي من رحابة الصدر مكان للاحتفاظ بالصداقات وامتصاص القذى، لأن الله أودعني بحراً من الإيمان، غِصْتُ في أمانه بلا أي قلق، لِأنصفَ مظلوماً وأطلق مخطوفاً وأجهر برأي شجاع، فالرأي عندي مثل شجاعة الشجعان بلا حاجة لتراتب وترتيب”.
من حق الرجل أن يكون ذا قلب مثخن من جراء الطعنات، وَحَلْقٍ مُفْعَمٍ بالمرارات، ولكني عندما كنت أفيض غيظاً لما يتعرضً لهً، كان يُسِلِّطُ على غضبي شعاعاً باسماً من عينيه فتسكن فورتي ويتلو عليَّ من القرآن الكريم آية تقول:” وكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ، وحين أسأله ممازحاً كيف تأتى له حفظ التنزيل بعد الغوص العميق في الايمان المسيحي المستنير، يجيب غامزاً من قناتي “لكي أرفع الإثم عن المقصرين”.
هو من تَكْبُرُ في عينه صغائر الحسنات، وتصغرُ في قلبه كبائر الاساءات، ينام ملء جفونه عن شواردها، ويبثُّ صمته مفعماً بالحكمة، فينكشف أمامه اللغو والبهت، فاذا افصح اللسان فبكلام قليل، ورب كلمة كألف، ورب خطاب كأفِّ، وربَّ أناقة تحار أمامها بيوت الأزياء.
بالأمس سألني الأخ الحبيب فريد مكاري إن كنت شاهدت يوماً جان عبيد بغير ربطة عنق، وقيافة كاملة، فقلت له شاهدته مرة واحدة على مدى ما يزيد على أربعين عاماً يرتدي عباءة، فأجاب وأنا كذلك، وربما كان السؤال والجواب يضمران أن الرجل يظل جاهزاً بكامل رونقه الخارجي والداخلي لتلبية نداء أو القيام بواجب.
وَصَفْتُهُ مرَّةً أنه كالمستديرة الكبيرة المزروعة بالنور والحبور، تلتف من حولها انواع المركبات التفافاً آمناً، وتستدلُّ منها على الطريق والمقصد، بلا ازدحام أو اصطدام.
عندما تولَّى التربية أشفق عليه محبّوه من إضراب مفتوح وأزمة مستدامة، فانتهى أمره صديقاً للمعلمين والتلامذة في لبنان كله، لأنه عقد صداقة مع المستقبل واستثمر فيه.
ثم تولّى الخارجية غداة أصبحت الولايات المتحدة دولة حدودية، وعمَّ الإرباك المنطقة بِرُمَّتها، فإِذْ به يمُرُّ عَبْرَ المضائق وفوق الألغام هَوْناً وسلاماً، ويرفع علم لبنان على سطوح الصداقة العالمية والأخُوَّةِ العربية.
لست أدري اذا كان صديقي جان عبيد سيستسيغ مني هذا المقال، ولكنني لم أقصد فيه مدحاً، بل سمحت لنفسي في لحظات نادرة، أن أفاخر ، وأزعم أني منتسب لأناقته،
ولكنني أخشى، وقد استعملتُ فيه كثيراً من عباراته، أن يُذَكِّرني بما قاله ابن الرومي:
“البُحْتُريُّ ذَنُوبُ الوجهِ نعرفُهُ
وما رأينا ذَنُوبَ الوجه ذا أَدَبِ”
يُغيرُ ليلاً على “الأَفكار” يسْلبُها
حُرَّ الكلامِ بجيشٍ غير ذي لَجَبِ”