عامٌ يطوى.
قريباً يبدأ الأخذ والرد في الذكرى الخامسة لـ «الربيع العربي» على مساحة ثوراته.
في الحد الأقصى للتفاؤل حديث عن «استثناء تونسي» وفي الحد الأقصى للتشاؤم تخيير للشعوب بين نظم الاستبداد وبين الحروب الأهلية، أو بالأحرى بين كوكتيلات متنوعة من الاستبداد والحروب الأهلية.
خارج إطار تونس والمغرب، كل على طريقته، وفي سياقه، يصعب الحديث عن تحول في اتجاه النظام الدستوري التعددي. حصول انتخابات حرة في بلدان أخرى كان إيذاناً بفشل عملية الانتقال الى الديموقراطية وليس بتمكينها.
تبقى «الصدارة الكارثية» مع ذلك للعراق وسوريا: فشل تجربة الزرع الديموقراطي بالاحتلال في العراق، والتوازن الكارثي في سوريا، بين نظام فشل في قمع ثورة، وإن نجح في تبديل طبيعتها، وبين ثورة فشلت في إسقاط نظام، وإن تقلصت مساحة سيطرته. سمح ذلك باستشراء النفوذ الايراني من ناحية، وبنشأة مسألة «عربية سنية» عابرة للحدود بين البلدين، استطاعت الجماعة الزرقاوية أن تستأثر بها، وتخطو في وقت واحد باتجاه منظومة الارهاب الفائق، وباتجاه إشهار دولة الخلافة المستعادة، لتواجه بدل الحرب الجوية اثنتين وثلاث، وتنجح في تكوين كيانيتها الممتدة من الموصل والأنبار حتى أعمال حلب والرقة وتدمر، ولها امتدادات في اليمن وليبيا ونيجيريا، وشبكات متنقلة على امتداد العالم.
عام يُطوى، ولبنان من كل هذا على حاله. الشغور الرئاسي المستفحل. تعطيل عمل الحكومة. امتناع الحياة التشريعية للمجلس النيابي. استمرار عدم الاتفاق على قانون انتخاب. استمرار الشقاق على خلفية الحرب في سوريا وتدخل «حزب الله» فيها. مسألة اللجوء الديموغرافي الى لبنان، وتأرجحها بين انفعالية عنصرية يبدر لها البعض، وبين الهامشية اللافتة لهذا الموضوع في النقاش الداخلي قياساً على الاهتمام الدولي به، مع ان ثلث سكان لبنان هم من السوريين حالياً. وبعد كل ذلك تردّي الخدمات، واستفحال مشكلة النفايات، وخيبة جموع الشبيبة بعد «صيف الحراك»، وعودة الروح للنغمة الأوليغارشية التي تريد ان تفهم القاصي والداني بأن شيئاً لن يتغير على مستوى النخب السياسية في هذا البلد.
في الجانب الإيجابي: لم يفرط البلد. لم يمتد الحريق العراقي والسوري اليه، بل تراجعت المشهديات «القندهارية» الهامشية فيه، وان كانت العملية الارهابية في برج البراجنة تدفع في اتجاه آخر.
كذلك، لم يفرض على لبنان نظام أمني من جديد، في حين انتهى الربيع العربي الى فوضى في بلدان، والى حكم عسكري في أخرى. والأهم، سجّل تراجع هذا العام في الاحتكام الى العنف ضمن النزاعات اللبنانية الداخلية.
الديموقراطية الطائفية اللبنانية التي كان يتم التندر عليها في وهج الربيع العربي، بأنها ستبدو متخلفة حين تعج المنطقة بالديموقراطيات الليبرالية ظهرت أكثر مناعة بوجه الاستبداد والفوضى والتطرف. لكنها في الوقت نفسه، وبسبب من جملة عوامل، اولها الهيمنة الفئوية المسلحة لـ «حزب الله»، واستشراء الطبيعة الاوليغارشية للحياة السياسية، وعدم الالتزام بالمواقيت الدستورية، فان هذه الديموقراطية تعطلت، في الوقت نفسه الذي أثبتت فيه أن تجربتها ثرية، ويؤسس عليها، بشرط اصلاح حقيقي لصيغتها، يؤسس لتعاقد حقيقي وصلب بين مكوناتها الأهلية والترابية.
عام يطوى.
العناصر التي تدعو الى التفاؤل داخلياً موجودة اذاً رغم كل شيء، لكنها تختلط بعناصر التشاؤم، ولم تنجح بعد المحاولات للخروج بالعناصر مدعاة التفاؤل بشيء مفيد. ان كان من تسوية سياسية بالإمكان إنجاحها مطلع العام المقبل، فانها ستنجح بمقدار ما تأخذ بعين الاعتبار عناصر التفاؤل هذا، وتسكبها بشكل متزن، وله قدرة دفع ذاتية. يبقى توفيق هذه العناصر مع مسار الأمور في سوريا .. وهذا لن يكون ممكناً الا باشتراط الفصل بين الوقائع والرغبات، وفي الوقائع ان النظام السوري لم يسقط بعد، والتطورات الدراماتيكية الاخيرة تعيد التأكيد على هذه النقطة. لا يمكن ان يسقط هكذا نظام بـ «يا إمي يا روحي».