كان يمكن للبنان «الرسمي» أن يتحمل على مدى تاريخه الحديث، أي الذي انطلق مع اندلاع حربه في العام 1975، انكسارات شتى، بفعل تلك الحرب أولاً وأساساً، وبفعل ضمور دولته نتيجة الأمر الواقع الذي استجد مع السلاح الفلسطيني والقوى والأحزاب المحلية ثانياً. ثم مع التطبيق المبتسر لاتفاق الطائف الذي «تعايش» مع معطيَين خارجيَين كبيرين هما الاحتلال الاسرائيلي في الجنوب، والوصاية السورية في سائر المناطق الأخرى.
وكان يمكن للبنان «الرسمي» أن يتحمل تداعيات تراكمات الحرب الأهلية تلك ثم تداعيات الخروج منها.. أي انكسار سلطته محلياً مع ترسخ ازدواجية السلاح بفعل «المقاومة» و»حزب الله»، وضمور سيادته بفعل الممارسات والارتكابات الوصائية السورية.. لكنه في كل مراحل الضنى تلك، كان، في كل مرّة، يقدم ما يكفي من دلالات على قدرته على التكيّف والانتظار، مستعيناً من جهة بفشل تجارب «استبداله» من خلال مشاريع فئوية وجزئية، ومن جهة ثانية بثبات مركزه وموقعه وشرعيته، في المحيط العربي أولاً وعلى المستوى الدولي ثانياً.
ولبنان الرسمي يعني «الدولة» أساساً. وهذه ظلّت تمثّل مفارقة قائمة في ذاتها: مقومات ضعفها واضمحلالها وانكسار وحدانيتها هي ذاتها شكلت مقومات صمودها واستمرارها وقوتها! ثم خروجها ناجحة على حساب فشل التجارب المزاحمة لها أو المناقضة لطبيعتها الجامعة.. وهي بذلك يمكن أن تكون دلالة فاقعة على أنجح تجربة فاشلة! مثلما تدلّ على هزيمة المنطق في أبسط قواعده كما في أعقدها.. حيث انها بقيت واحدة في واقع منقسم. وحاوية منخورة برصاص «أهلها» لكنها بقيت «حاوية»، وجامعة كاملة لرعايا مفتّتين ومشرذمين ومنقسمين ويقتل بعضهم بعضا!.
وهذه الخيمة بقيت سارحة في التاريخ والجغرافيا والواقع الوطني، ليس فقط لأن كل بدائلها سقطت، على المستوى الداخلي (الشديد الترابط في كل حال بالمعطى الخارجي)، بل لأن الأعمدة التي ارتكزت عليها في المدار العربي الأوسع كانت شديدة التمسك بفيئها وظلالها.. ووجودها وترابطها!
لكن أخطر ما في الوضع الراهن، هو تعرّض هذه الصورة برمّتها لمخاطر انكسار غير مسبوق: داخلياً تحت وطأة ازدياد وقع الازدواجية القائمة، التي يبقى سلاح «حزب الله» أساسها الأول (والأخير!). وخارجياً تحت وطأة المشروع الإيراني وملابساته ومتطلباته ومعاركه وحروبه، والتي قلّصت حُكماً وحتماً مساحة القبول العربي ورحابة الصدر المألوفة، ودفعت دفعاً الى الانتهاء من قصّة الفصل بين «الداخل» اللبناني و»الخارج» اللبناني. والذهاب عن حق، الى قناعة تامّة بأن «حزب الله» لم يعد «مشكلة» لبنانية داخلية فقط، بل صار مشكلة كبيرة إقليمية (عربية) أيضاً!
وللمرة الأولى، رغم كل ما مرّ على لبنان «الرسمي» هذا من تجارب ومصاعب وبلايا، يتولّد شعور «وطني» شبه عام، بأن إيران وحزبها تمكّنا من النجاح في جعل «مشكلته» أكبر من «دولته» وجغرافيته.. وتمكّنا من إزالة ذلك الحد الفاصل بين أوضاعه وظروفه وانقساماته المألوفة من جهة، و»دولته» الشرعية تلك من جهة ثانية!
وفي ذلك، لا يُلام المدار العربي لا من قريب ولا من بعيد على نضوج عوارض انكسار قد لا ينجو منه أحد!