لماذا شعر كل لبناني بالحزن على إلياس سكاف؟
لماذا والرجل لم يكن زعيم ميليشيا؟!
وليست يداه ملطختين بالدماء؟!
ولم يُثْرِ على حساب الخزينة العامة؟!
ولم يُحِط نفسه بالزعران؟!
ولم يعتدِ على أملاك الغير والدولة؟!
ولم يكن محرّضاً طائفياً؟!
ولم يقبل بأن يرهن قراره لأي جهة داخلية أو خارجية؟!
إذاً، لماذا هذه اللوعة عليه؟
ببساطة: لأنه لم يكن متمتعاً بتلك «المزايا»!
فاللبنانيون تاقوا الى الزعيم الآدمي، واشتاقوا الى الزعيم الطيّب، وبرّح بهم الحنين الى الزعيم الخلوق.
وبعد، يؤسفني أنني لم أتعرف عن قرب الى إيلي سكاف، فقيد زحلة والبقاع ولبنان كله… هذا الزعيم الذي صرعه الداء فغادرنا قبل أيام فكشف الحزن العام عليه كم كان هذا الرجل مثالاً للقيادي المنزّه.
ويؤسفني أكثر أننا لا نعرف قيمة رجالاتنا الكبار إلاّ بعد رحيلهم من هذه الفانية الى دنيا الحق. لقد كان «يجب» أن يرحل إيلي سكاف حتى نكتشف الحقائق الآتية:
* كان الفقيد الكبير عنواناً للآدمية والصدق والوفاء والإخلاص والوطنية الصافية، والمواقف الصلبة.
* كان إيلي سكاف زعيماً ومرجعية للمسلمين والمسيحيين على حد سواء. يتساوى في ذلك الشيعة والسنّة والدروز في منطقة البقاع كلها وليس زحلة وحدها، كما يتساوى الكاثوليك (وزحلة عاصمتهم في هذا المشرق) والموارنة والأرثوذكس وسائر الأطياف المسيحية.
* كدنا لا نصدّق ما شاهدناه على شاشات التلفزة من رجال ونساء يبكون «البيك»، كباراً وصغاراً، مسلمين ومسيحيين، بلهجة واحدة: كان زعيمنا… يا ضيعانو… افتقدنا فيه الأب والأخ والصديق والعضد.
* عشائر البقاع (على مختلف أطيافهم) زحفوا الى زحلة للمشاركة في صلاة الجنازة عن روحه الطاهرة، وهم يندبونه ويحوربون بإسمه ويذرفون الدموع الصادقة الحرّى على رحيله.
«الطيب، الآدمي، الوفي»، كلمات لم يتوقف الناس عن التلفظ بها وتردادها، وكأن الراحل الكبير هو آخر الأوادم وآخر الطيبين وآخر الأوفياء.
وأستعيد المرحلة الماضية القريبة… أستعيد البضع عشرة سنة الأخيرة لأستذكر كم كان إيلي سكاف عرضة لأخطاء إرتكبت بحقه من غير طرف، وغير قيادة، وغير حزب.
ومع ذلك صمد الرجل… واستطاع أن يظل واقفاً على رجليه رغم الضغوط السياسية الضخمة والأزمة المالية الهائلة. وكم أثّر بي الكلام الذي سمعته، أمس، من أحد مشايخ عشيرة (من عشائر العرب) وقد قال: أنا جايي أبكي مرتين… مرة لأن إيلي بك مات ومرة ثانية لأننا أنغشينا وخذلناه (…) يا ريتني كسرت ايدي وما خذلتو… وأنا بوعدك يا بيك أنني سأظل وفياً لبيتك، أنا وعشيرتي كلها، وولادك أمانة في رقبتنا… سامحنا يا بيك. أنت الوحيد اللي زعيمنا… بحياتك كلها ما سمعنا منك كلمة لها معنى طائفي (…)».
كان «يجب» أن يرحل إيلي سكاف حتى نعرف كم كان تلك الشخصية النادرة، ذات الأفضال الحميدة «بيّ الفقير وصديق المحتاجين» (كما قال الناس أمس)…
وكان «يجب» أن يرحل ليتبيّن كم أساء بعضنا إليه من دون أن يسيء الى أحد، لا هو ولا والده… فهذا البيت السكافي كان رمزاً للعطاء، رمزاً للشفافية، رمزاً للوحدة الوطنية، رمزاً للنقاء والصفاء وعدم حمل مسؤولية نقطة دم واحدة ولا … قرش واحد.
كان «يجب» أن يرحل إيلي سكاف حتى نشعر بوخزة في الضمائر، وفي الوجدان الوطني… فنعلن بالفم المليان، وبالصوت العالي: هكذا نريد القادة والزعماء والبيوتات السياسية في وطننا… لأنه في غياب هؤلاء، أو في إسقاط دورهم سقط وطننا الى قعر الهاوية مع هذا الجيل الهجين من القادة والمسؤولين.