إتّصل بي د.عصام خليفة المرشّح لرئاسة الجمهورية. قال:
“أطرح عليك سؤآلاً. قل نعم قبل معرفتك بالسؤآل.
لم يُطرح عليّ سؤآلٍ مشابه محاضراً جامعياً في “فنون المقابلة” ونشرت حولها كتباً مختصرها:”السؤآل هو الحياة بينما الجواب هو الموت”.
سكتّ لثوانٍ كالبرق تذكّرت دار المعلمين العليا جمعتنا في 1967 تاريخ “نكسة العرب”، تبعتها ثورة “جامعة السربون” وتفريع واستقالة الرئيس شارل ديغول وصولاً لإصدارنا مع الدكتور بشارة حنّا “بريق الثورة في لبنان” كتابنا العظيم اليتيم باسم “التجمع الأكاديمي لللأساتذة الجامعيين في لبنان” والمتضمّن المذكرات والدراسات والمقالات التي سبقت الثورة أو الحراك في لبنان ال2019، وأهمّها تلك المذكّرة الشهيرة التي سبق وقدّمناها لوزير خارجية أميركا مايك بومبيو حول حقوق لبنان “المُقدّسة” بثرواته النفطية والغازية وفقاً للخط 29 لا 23 .
أجبت : نعم… ما السؤآل أخي عصام؟
قال: أتُدير حواراً نخبويّاً مع وزير الخارجية السابق د. إيلي سالم؟
أجبت: نعم بضمّ الإبهام والوسطى والسبابة لسياسي مستقيم الصراط وشجاع متذكّراً قوله :” ترددت كثيراً بتناول المواضيع السياسية مع أنّني أكثر من رافق الرئيس أمين الجميّل مع الإستاذ غسان تويني”. صحيح هذا إذن لرجلٍ تخمّر بالأسرار بين 1982-1988 لسنواتٍ الوعورة والخطورة في تاريخ لبنان المعاصر مشاركاً بطحنها وعجنها وخبزها وبقي شاباً في ال94 من عمره سالماً سنحتفل ب عيد ميلاده إذ نرفع بحضوره بعض الأغطية عن السنوات الممزقة والمحروقة بعدما تدفقت الأحداث وتبعثرت المواقف في رؤوس المسؤولين فأدمنو الجهود والعجز وتشعّبت المضامين والألغام والإزدواجيات والمؤمرات في وطنٍ يبدو اليوم أكثر انفراطاً وتشعّباً ممّا عاناه الدكتور سالم والقصر الجمهوري واللبنانيين ونُعاني منه كما المحيطً حتى اليوم.
1- التقيت الوزير سالم في قصر بعبدا إثر عودتي النهائية من باريس 1984 نحو منزلٍ في قريطم. كان شقيقي راجح الخوري رحمه الله الكاتب والصحافي في “النهار” مستشاراً في القصر وشاركني وقائع تجمّدت بسببها العلاقات الجغرافية والسياسية واستحالات الخروج من الحروب والنزاعات الداخلية والتعثر الإقتصادي والمالي ووقوع اللبنانيين فوق أراجيح المصارف المتلاعبة يومها بالعملات. ها هم اللبنانيون يمضغون أنفسهم مجدّداً بعد 40 سنة من “تدولر” العملات إيّاها ليتقاضى النازح موزّعاً قوارير الغاز $ 350 شهرياً فيتساوى مع بروفسور متقاعد خريج أكسفورد أو السربون حامل 2 دكتوراه وله عشرات المؤلفات والمحاضرات والدراسات و35 سنة محاضرات وتخريج أجيال في الجامعة الوطنية.
2- كان القصر الرئاسي آنذاك محاصراً ومربكاً يطلّون من شرفاته في بعبدا على “بيروت الكبرى والضاحية الجنوبية” مشروع الرئيس أمين الجميل وعلى البحر الأبيض المتوسط، ونرى اللبنانيين والعرب والعالم منذ عامين من الفراغ عقب انتهاء ولاية الجنرال الرئيس ميشال عون، بانتظار رئيس جمهورية جديد لن يطلّ حتى الآن إلاّ من الضاحية الجنوبية وإيران المشغول بسقوط طائرة الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي يرافقه وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان بعدما كان لبنان مشغولاً بالقرار الدولي 1701 وطوفان غزّة 7 اكتوبر 2023 كما بفلسطين ودول العرب الشقيقة والعالم الرفيقة والرشيقة للحفاظ على مصالحها فقط وفي رأسها الدول العظمى والمنظّمات الدولية ومجلس الأمن المُتعثّر يضرب حائراً كفّاً بكفٍّ.
3- نلتقي حول لبنان عرفناه بعد إتّفاق الطائف 1989 دستوراً نطوف به على أبواب الطوائف والسفراء والمبعوثين عبر مئويّته الثانية جمهوريةً مبعثرة مقطوعة العنق بخناجر سياسات من لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين أضاعوا لبناننا وسلّموه هيكلاً منخوراً للموفدين الكثر ولملايين النازحين السوريين مليار يورو مقسّطة على أربع سنوات ولا من يعرف جوهر الحقائق والخفايا وجواهرها.
4- فتح الوزير إيلي سالم مؤلّفه بالإنكليزية In dialogue with Lebanonأي “حوار مع لبنان” حافلاً بالأخبار القوية. أيّ لبنانٍ هذا وفي وجهه 36 عين وعين وبصيغ ورؤى متعددة متقابلة داخلية ناهيك عن العيون الدولية من الصغيرة حتى العظمى؟ لا بأس. نفتح غبار مؤلّف سالم الحافل بالأسرار والأدوار والوثائق اللبنانية والسورية والسعودية والأميركية والإسرائيلية وتفاصيل اللقاءات مع دونالد ريغان وفيليب حبيب وريتشارد مورفي وجورج شولتز وحافظ الأسد الذي “كان يتشاور معه شخصياً ويومياً ويُصرعلى أن يكون في كل اللجان اللبنانية ـ السورية الساعية إلى التنسيق السياسي والأمني بين البلدين” إلى لقاءاته بالأخضر الابراهيمي ورفيق الحريري مبعوث الملك فهد بن عبد العزيز حاملاً عناوين إتفاق الطائف ومع هاني سلام رجل الأعمال اللبناني في لندن في ال1987 لإقناع الرئيس السوري حافظ الأسد القبول باتفاقية 17 أيار 1983 بين لبنان وإسرائيل والتي كان عارضها الأسد بقوة.
5- كنت أحد مسؤولي “مجلّة المستقبل” رائدة الصحافة المهاجرة إلى باريس المحاذية لفندق” البرانس دو غال” الذي أقام فيه العميد ريمون إده. تدفّق نحو المقريّن بين 1976 وال 1984 تاريخ عودتنا إلى لبنان، معظم سياسيي لبنان والعرب وهناك راحت تتبلور الخطوط لاتّفاق الطائف لينتقل الشيخ رفيق الحريري رحمه الله نحو لبنان وفي جيبه شعاره المُحبّب: “بيروت المدينة العريقة للمستقبل” بعدما تمّ تنظيفها من الحروب المتناسلة ورُسمت هندستها ليجعلها وطناً وصحيفة وإذاعة وشاشة تلفزيونية وتياراً سياسيّاً واسعاً وجامعاً للبنانيين من مختلف الطوائف والمذاهب والمشارب، بعدما أعلن وقف العد في توزيع المناصب بين المسيحيين والمسلمين، وليودّع أحلامه الواسعة شهيداً للإنفجار الضخم في قلب “الداون تاون” الساحة التي سرعان ما خلعت هذا الإسم الجديد لتعود ساحة الشهداء في جمهورية الشهداء تتوكّأ ساحاتٍ قذرة مبعثرة مهملة تتطلّع بحثاً عن مستقبلٍ جديد لكنه بعيد المنال. كانت “المستقبل” في باريس منتدى للسياسيين ومطابخ للأخبار والأدوار والأسرار التي عاشها وخبرها الوزير إيلي سالم وغيره مسكونين بالمهمّات المُقلقة بل شبه المستحيلة من تاريخ لبنان الموسوم باتفاقية 17 أيار 1983 مع إسرائيل وبدايات اللقاءات السريّة لاتفاق الطائف الذي خبر تفاصيل تجهيزه غير المُعلنة قطعاً الوزير سالم ولو أنّها تفترق عمّا تمكّنت من توثيقه في مخطوطةٍ (ليتها تُنشر!) لقاءات مع معظم النواب اللذين كانوا في الطائف كما مع الرئيس حسين الحسيني الذي ما أن سألته مرّةً عن حصر الدفاع في وسائل الإعلام عن إتفاق الطائف بالمسيحيين أن أجاب: “المسيحيون تمسّكوا برئاسة الجمهورية وقيادة الجيش وحاكمية مصرف لبنان والوزارات والإدارات وانتزعنا صلاحياتهم… وأوكلنا المهمة إلى النواب جورج سعادة وإدمون رزق وبطرس حرب وألبير منصور الذي نشر كتاباً لافتاً بعنوان:”الإنقلاب على الطائف” ليبقى لبنان أبداً هو السؤآل.
-6 أسأل أخيراً عن سرّ الصدف في جذب القصور لإيلي سالم المستقيم الرأي بذاكرته ومرحه لكن بغضبه المشهود حتّى الإنفعال والضرب حين يُهان لبنان أو اللبنانيين بحضوره:
يروي الوزير إيلي سالم كيف هجم على عبد الحليم خدّام أبي جمال ولقّنه ضرباً مبرحاً في مكتب سعود الفيصل وزير الخارجية السعودية لتطاوله وتحقيره المستمر للبنان واللبنانيين. إتّصلت بالوزير سالم أستمزجه إمكانية إيراد القصة ونشرها في هذه الورقة فجاءت ضحكته من بطرّام في الشمال كالرعد موافقاً وكأنّه يجيبني من الغرفة الثانية بمنزلي قائلاً:
• وضحك الرئيس الأسد عميقاً عندما أخبروه بالقصة.
وقال لي ضاحكاً: خذ هذه القصة الثانية:
“مرّةً كان بحوزتي وثيقة إتّفاق الطائف باللغتين الإنكليزية والعربية. طلبها منّي الوزير فاروق الشرع فأعطيته النسخة العربية لكنّه طلب الوثيقة بالإنكليزية فرفضت، فما كان منه أن سحبها بخفّةٍ من بين يديّ وركض أمامي. لحقت به وأمسكته بشعره وطرحته أرضاً وانتزعتها منه بالقوة.
الوزير سالم “القبضاي” طويل القامة والهامة ليسلم لبنان وتصدح ضحكاته بقوة دمغته الكرامة والعدالة هذا الذي ولد ونشأ مع أشقائه الستة في قرية بطرّام حافظاً نهج والده المرحوم أديب سالم الكاتب بالعدل في الكورة من شمالي لبنان.
باحث وأستاذ جامعي.
عضو الهيئة العليا للإشراف على الإنتخابات