غروب نهار بعيد خرجت من مبنى الـ “أل بي سي” حيث كنت أعمل، وكانت المحطة تشغل مبنى دار المعلمين في جونيه، متوجهاً إلى بيروت بسيارة “فيات ميرافيوري” شهدت حربين عالميتين ضد الجنرال ميشال عون، ونالت نصيبها من الشظايا. لمحت على الأوتوستراد شاباً ممتلئ الجسم تقول عصاه إنه أعمى وتقول يده اليسرى “خذني معك”. توقفت. صعد إلى جانبي ومعه كيس نايلون في داخله “مراطبين” مربيات. أخبرني أنه يبيع المربيات كي يكسب قوته، وأن كثيرين يحاولون التحايل عليه عبر نقده ليرة بدل الخمس ليرات، أو ربع ليرة معدنية بدل الخمسين قرشاً. وأضاف: “يمكنني بسهولة التعرّف على الأوراق النقدية والقطع المعدنية، كما يمكنني معرفة السيارة من صوت محرّكها”. عرف يومها ماركة سيارتي وشعر بمعاناتها. عرفت أن اسم الضرير الياس، وبمرور الوقت نسيت اسم عائلته. لكن لن أنسى المشوار من جونيه إلى أوتوستراد العدلية.
مرّت ثلاث وثلاثون سنة على ذاك “الأوتوستوب” لم ألمح الرجل في خلالها. قبل أيام عاد الياس إلى الظهور في المكان الذي أنزلته فيه قبل ثلاثة عقود ونيّف. رأيته وعصاه وكيس النايلون. عرفته. كانت الساعة تناهز السابعة والنصف مساءً. دعوته إلى الصعود، وسألته عن وجهته في تلك العشية أجاب: “إلى جونيه. أحدهم ربما ترك لي نقوداً في محل للحلويات. ومن جونيه سأتوجه إلى صيدلية جبيل لشراء دواء لشقيقتي، ثم أعود إلى عين الرمانة”. يعول الياس على الـ “ربما”. يا لصبره!
ماذا تفعل يا الياس هذه الأيام؟ “أبيع سي ديات لإحدى الفنانات. واليوم اشتبكت كلامياً مع إحدى السيدات التي عرضت أن تشتري CD لكنها اشترطت أن تدفع ثمنه بعد سماعه. إن أعجبتها الأغاني تدفع أو تعيده إليه…” نجسة. وأحياناً يبيع الياس عبوات مياه “وقد نهرتني إحداهن قائلة: روح انضب بشي مأوى”.
يعيش الياس حبيب مع شقيقتين: إحداهما ضريرة والثانية التي تهتم بهما مصابة بمرض السكري. الياس المعيل الوحيد. يشكر ربه دائماً. ينقّ أقل منا بكثير. يتابع الأخبار بتفصيل التفاصيل. لم يشارك في الإنتخابات لكنه معني بنتائجها. سأل عن “نداء الوطن”. وجاء على ذكر مدعي عام جبل لبنان القاضية غادة عون. الخير بالشر يذكر. قلتُ “مجنونة” عقّب “مش مجنونة خوتة” لم أستوضح من الياس عن الفارق بين “المجنون” و”الأخوت”.
وصلنا إلى جونيه. قبل أن يترجل الياس من سيارتي. قال لي: أعرف نوع السيارة التي تقلني من طبشة الباب. وسيارتُك ماركة نيسان.