يفترض أن يساهم توقيع البابا فرنسيس مرسوم إعلان البطريرك الياس الحويك مكرّماً بإطلاق ورشة نبش للذاكرة، مع اقتراب مئوية “دولة لبنان الكبير”، وهو المشروع الذي كافح الحويك وجازف في سبيله.
نبش الذاكرة يعني التصالح مع وجود سرديات مختلفة رافقت ولادة هذا البلد. سرديات لم يبق أيّ منها على حاله بعد ذلك. لقد وجدت النزعة الكيانية للحويك صعوبة بالغة وهي تحاول شقّ السبيل، بين ضغط النزعة الإنطوائية الجبلية من ناحية، والضغط “الوحدوي” السوريّ من ناحية مقابلة. بقيت مع ذلك كيانية متمحورة حول الجبل. سيظهر بعد ذلك أن الصعوبة الأكبر تكمن في جعل هذه الكيانية جامعة ومتوازنة بين متساويين.
الحاجة إلى “نبش الذاكرة” هي على النقيض من صولات “نبش القبور” التي تطلّ علينا بين الفينة والفينة. “نبش القبور” عملية “تتفيه” للتاريخ، إختزاله إلى ثنائية ملائكة وشياطين، وتحويل “شيطانك” إلى “ملاك” بجرّة قلم حين تقضي مصلحتك الآنية بذلك، ثم إعادة شيطنته مجدّداً حين ينقلب الظرف.
أما “نبش الذاكرة”، ولو كان يدلف من بوابة تكريم على طريق التطويب، فشرطه على العكس من ذلك، التصالح مع التناقضات المفضية إلى ظهور “لبنان الكبير”، والمفارقات المبقية للكيان رغم كل ما تضمّنه القرن الموشك على الإنتهاء من عناصر سريعة العطب، وأخرى سريعة الإشتعال.
لم يتأسس وطن الحويك على الإجماع بين مكوناته، ولا انطلقت مكوناته من المعطيات نفسها في نهاية العصر العثماني. كان البطريرك واضحاً في توجهه، خريف 1919، إلى مؤتمر الصلح في فرساي بالقول: “إستقلال لبنان ليس استقلالاً ناتجاً من انهيار الدولة العثمانية فحسب، انه استقلال كامل عن أيّة دولة عربية يمكن أن تنشأ في سوريا”. والحويك لم يكن متقوقعاً في متصرفية الجبل، بل جزءاً من الفضاء العثماني. سبق له زيارة الأستانة واستقبله السلطان عبد الحميد الثاني مرتين، ووقف فيها على أدوار حسّاسة لموارنة مقربين للسلطان، أبرزهم الوزير العثماني سليم باشا ملحمة وأخوه في قيادة “المخابرات” ملحم باشا… كما سبق لسلفه البطريرك بولس مسعد أن زار الأستانة العام 1867 حيث استقبله السلطان عبد العزيز، ووقف مسعد بدوره على الأهمية المعطاة في “دار الخلافة” لماروني اعتنق الإسلام وأصدر صحيفة السلطنة بالعربية، “الجوائب”، والذي لم يكن سوى ابن عمّته، أي أحمد فارس الشدياق.
لأجل هذا لم تنشأ الكيانية اللبنانية عن تقوقع، بل عن إدراك بأنّ الفضاء العثماني الفسيح قد آل إلى كابوس في الأعوام الأخيرة. في الموازاة، نجح الحويك بانتهاج سياسة دقيقة للغاية وبراغماتية مع جمال باشا، واستمرّ تبادل البرقيات بينهما إلى ما بعد رحيل الأخير، مثلما أن تصميمه على توسعة الكيان نشأ من معايشته للمجاعة التي أفنت ثلث أهالي الجبل، والتي مال التاريخ الرسمي اللبناني لاختزالها في تدابير جمال باشا من ناحية، ولتهميشها كونها “فئوية” من ناحية ثانية، مفضّلاً التركيز على مشهدية 6 أيار كونها مشهدية إسلامية مسيحية مشتركة!