IMLebanon

الياس المرّ: أفضّل الموت هنا على العيش في أي بلد آخر

 

 

تُصادف اليوم الذكرى التاسعة عشرة لتفجير دولة الرئيس الياس المرّ نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية والدفاع السابق، ورفاقه الأوفياء، في 12 تموز 2005.

19 سنة مرّت على هذه الجريمة الإرهابية، ولم يعرف لبنان راحةً ولا استراحةً. أزمة تولّد أزمات، وفوضى تخلّف فوضى، وانهيار يفتّت البلد، وهجرة تفكّك الأسر والعائلات، حتى بات الشعب اللبناني غريباً على الحياة بلا همّ ولا ألم.

 

19 سنة من سياسات مبنية على صفقات وتقاسم مغانم، لا مكان فيها لبناء دولة وكرامة مواطن. 19 سنة وهم يختلفون على الدستور، ويطعنون النظام الحّر، ويهدرون مقدّرات البلد ويستبيحون جنى أعمار الناس، ويُمعنون في قهر المواطن وإذلاله، ويتفرّجون على مغادرة مليون لبناني وطنهم ودخول مليوني غير لبناني مكانهم، ويتقاذفون مسؤولية الإنهيار، ويعطّلون القضاء وكل نظم المحاسبة والعدالة، حتى سادت الفوضى، وعمّ الشلل في مؤسسات الدولة، وعُطِّلت رئاسة الجمهورية، وحُرم البلد من حكومة أصيلة، وذُلّ المواطن، وتحوّلنا من نظام شبه ديموقراطي إلى نظام «Cacistocracie».

 

كواكب من الشهداء سقطت قبل 12 تموز 2005 وبعده، وما زالت الشهادة تروي تراب الوطن اليوم، في مواجهة عدو لا يعرف غير الإغتيال والإبادة والتدمير. لكن القوى المتناحرة حيناً والمتحاصصة دائماً، حتى على الشهادة والشهداء، اختلفت.

وقد وصلت الوقاحة لدى البعض إلى المزايدة على صاحب الدم وتعييره بأنّه سامح، والتسامح وسام على صدر المُسامِح، وأيقونة في جوهر الإيمان المسيحي.

 

دولة الرئيس الياس المرّ سامح من اتُهِم بتفجيره، لقناعته بأنّ لبنان لن ينهض بالأحقاد، وأنّ العيش في الماضي لا يحلّ أزمات الحاضر، ولا يصنع المستقبل.

 

أذكر أنني، قبل أربعين سنة، وفي ليلة رأس السنة تحديداً، سألت دولة الرئيس الياس المر، وكنا شبه محاصرين في الأشرفية في مبنى جريدة «الجمهورية»، تحت زخات الرصاص والقذائف المتطايرة نتيجة إشتباكات أحزاب مسيحية ضدّ بعضها البعض: أنت إبن ميشال المرّ ولديك كل ما يحلم به أي شاب لبناني وكل الإمكانات لتقضي أجمل حياة في سويسرا، فماذا تفعل هنا في هذا الجحيم؟

 

إبتسم وأجابني: هذا بلدي، أفضّل الموت هنا على العيش في أي بلد آخر.

 

هذا هو الياس المرّ منذ نشأته. لم تُغيّره الأيام، ولم تُبدّله المناصب. لم يتعلّم أن يُهادن في مواجهة، ولا أن يستسلم أمام تحدٍ. لم يتعلّم أن يساوم على حق، ولا أن يلين أمام شدّة.

حاولوا إلغاءه وإسكاته بمحاولة إغتياله يوم كان وزيراً للدفاع، فعاد اليهم بصوت يصدح يومياً دفاعاً عن الحرّية والسيادة والجيش وحقوق اللبنانيين، فكانت «الجمهورية» المنبر الحرّ للرأي والرأي الآخر، وسلاح الكلمة الجريئة والموقف الوطني المسؤول.

 

نتذكر 12 تموز 2005، لنستخلص الدروس والعِبَر:

لا تُبنى الأوطان بالتصفية والقتل والإغتيال.

لا يُبنى المستقبل بالحقد والغرق في الماضي.

لا تصل سياسات الإلغاء، جسدياً أو سياسياً، إلى استقرار البلد وازدهاره.

 

غير أنّ كثيرين لم يتعلّموا شيئاً من الماضي ومآسيه، وما زالت سياسات الكذب واللامبالاة واقتسام النفوذ والسلطة والمصالح الذاتية تمنع الإنتقال من الجحيم إلى بناء دولة عصرية حديثة.

 

لم يتعلّم كثيرون أنّ الكراهية والكيدية تفرّقان ولا تجمعان، وأنّ التطرّف والتحريض يزيدان الأزمات ولا يحلاّن المشكلات، وأنّ الحوار وحده هو السبيل إلى بناء المستقبل.

 

ما أحوج لبنان اليوم إلى رجال رجال من طينة دولة الرئيس الياس المرّ، يُغلِّبون مصلحة البلد على مصالحهم، ويشجّعون الشباب على قيم الإنفتاح والإعتدال بدل الإنعزال والتطرّف، وينتهجون التسامح لا الحقد والكراهية، لأنّ بناء الدولة الحديثة يحتاج إلى سواعد جميع بناتها وأبنائها، لا إلى شعارات تدغدغ الغرائز وتبث اليأس بدل الأمل.