عبدالله قيصر الخوري مناضل «عتيق» له الفضل الأوّل بتأسيس «التيار الوطني الحرّ» الذي كُِتبَ اسمه بخطّ يده للمرّة الأولى في منزله في قرية «قرنة الحمراء» المتنيّة، يوم كان ملهم هذه الحركة السياسيّة، أي العماد عون، يعيش في منفاه الباريسيّ متنعّماً بأموال الذين آمنوا به، مقاوماً شرساً للوجود السوري في لبنان آنذاك.
وما قرار الخوري بكشف حقائق تلك المرحلة من نضاله السياسي إلا قناعة منه بتصويب البوصلة عبر عمليّة نقد ذاتي أراد لها أن تتحوّل إلى الجماعة التي كان فيها مسؤول التعبئة العامّة على صعيد لبنان كلّه، وبتكليف مباشر من العماد عون نفسه. ليصبح بعد ذلك عضو القيادة في التيار الوطني الحرّ الذي ولد بعد 7 آب 2001. وبرغم الملاحقات والتهديدات التي تعرّض لها، وعائلته معه، بقي الخوري صامداً في نضاله إلى أن انسحب عام 2003 بهدوء متّهماً التيّار الوطني الحرّ «بالتخلي عن الكيانيّة المسيحيّة والتفريط بالقضية اللبنانية».
بعد 13 تشرين
إيمان الخوري وقناعته بأنّ هذا الرّجل «ضرب العمود الفقري للموارنة، ومن خلاله للمسيحيّين، بحيث دمّر القوّة الضامنة لهم المتمثلة بالجيش، كما دمّر القوّة المطمئنة أي القوات اللبنانيّة. فمكّن النّظام السوري من إخماد القوّة الضامنة للبنانيين ومن خلالهم للمسيحيين».
وعن بدء نضاله مع العماد عون يؤكّد الخوري لـ»نداء الوطن» قائلاً: «قبل 13 تشرين كنت أخوض غماراً سياسيّة في خدمة مرحلة العماد عون حيث ساهمت بالميرون السياسي لهذه المرحلة من دون أيّ حسابات شخصيّة أو سياسيّة أو حسابات مواقع». ويكشف الخوري أنّهم كمناضلين في تلك الفترة «غضّينا الطرف عن تسمية لجوئه إلى السفارة الفرنسيّة «هروباً» كي لا ينهار المجتمع المسيحي كلّيّاً لأنّ هزيمة المسيحيّين في تلك المرحلة أي في 13 تشرين، هي ثاني أكبر هزيمة لمسيحيي الشرق بعد هزيمة مسيحيي بيزنطية في العام 1453».
ويكشف عبدالله الخوري أنّ هذا ما دفعه شخصيّاً إلى «نسج قصّة مجمّلة مفادها إرسال الفرنسيّين بطلب عون إلى السفارة للتفاوض مع الياس الهراوي بسبب انقطاع الاتّصالات في المنطقة الشرقيّة وقتذاك. وهذا كلّه كان من اختلاق الخيال الذي يتوخّى البقاء» كما قال الخوري في حديثه. وفي العام 2001 نصح عون قائلاً له: «أفضّل شخصيّاً أن تبقى أنت في باريس لأنّني أتمنى أن تصبح المرجعيّة التاريخيّة التي ستجسّد تاريخ أجدادنا».
أمّا المحامي إيلي محفوض، رئيس حركة التغيير، فيستذكر في تلك المرحلة عندما كان يتمّ توقيف المناضلين ضدّ الوجود السوري «كان يتمّ الاعتداء على شباب القوات اللبنانية بينما لا يتمّ التعرّض للعونيين». وهذا ما يؤكّد التواطؤ لا سيّما في أحداث 7 آب 2001 حيث يؤكّد محفوض ذلك لأنّ «الهدف الدائم كان ضرب المقاومة اللبنانية التي كانت تتمثّل بحزب القوات اللبنانيّة» وليثبت صحّة قوله يسترجع ما قاله عبد الحليم خدّام في إحدى مقابلاته على شاشة الجزيرة «خلال الحرب بين القوات وعون نحن وقفنا مع عون ودعمناه بكلّ ما لدينا من قوّة».
الصدمة
ويكشف الخوري أنّه بدأ بالشعور بأنّ هذه الجماعة التي أولاها ثقته وخاض معها غمار مواجهة النظام الأمني اللبناني – السوري المشترك، أنّهم «على علاقة مباشرة مع هذا النّظام، وبالتحديد عبر جميل السيّد». وهذا ما دفعه إلى الاستنتاج العملي بأنّهم لم يكونوا «مضطهدين كما حاولوا دائماً الإيحاء بذلك». ويكشف الخوري عن معلومات كانت ترده من بعض المقرّبين عن «لقاءات كانت تحدث في باريس بين عون وجميل السيّد وآصف شوكت». وهذا ما دفعه إلى الدخول في «مرحلة التأمّل الفكري والنقد الذاتي» ومراجعة كلّ تاريخ عمله السياسي مع هذه الجماعة.
أمّا المحامي إيلي محفوض رئيس حركة التغيير فيرى أنّ «العلاقة بين عون والسوريّين عمرها عشرات السنين، لكن جريمة 13 تشرين لم تقتصر فقط على خطف عسكر وراهبين أنطونيين بل هنالك مثلا مجزرة بسوس التي قتل فيها السوريون 13 مدنيّاً، فضلاً عن قتل العسكر اللبناني المصاب». ويكشف محفوض عن علاقة إيلي حبيقة بعون التي تعود إلى ما قبل 13 تشرين فعون نفسه تدخّل في انتفاضة 1986 التي نفّذها سمير جعجع ضدّ إيلي حبيقة لإخراج حبيقة وابن الوزير ميشال المرّ من المجلس الحربي إلى وزارة الدّفاع في السيارات نفسها التي نقلت عائلة عون من القصر الجمهوري إلى السفارة الفرنسية. وحبيقة كان يفاوض عون قبيل 13 تشرين ليسلّم عون المنطقة منعاً للحرب. وعون كان قد قرّر تسليم الشرعية إلى الرئيس الياس الهراوي آنذاك. جريمة 13 تشرين أدخلت السوري وسمحت له بتدنيس وزارة الدفاع والقصر الجمهوري ونهبوا تاريخ لبنان منذ زمن فخر الدين وحتّى 13 تشرين.
وفي طبيعة العلاقة مع السوريين يكشف الخوري أنّ «عون في منفاه الباريسي بدأها عبر المحامي فايز قزّي قرابة العام 2003 وعندما نجح بالملفّ، ونزولاً عند طلب السوريّين سحب الملفّ منه وتابع هذه المسألة مع إميل إميل لحود وكريم بقرادوني لتحضير الأرضيّة لعودته. وتبلورت أكثر هذه العلاقة في العام 2005. ويلفت في هذا السياق المحامي إيلي محفوض إلى أنّ «عون كان يعتمد طريقة تعدّد الموفدين في كلّ مفاوضاته فهو تعاون مثلاً مع ألبير منصور ومحسن دلول وبعض ضباط الجيش الموفدين إلى القيادة السورية. وهذه النمطية تمكّنه من التنصل من مصدره إذا فشل ويعتمد على الآخر إذا نجح».
وهذا ما دفع بقزّي مثلاً إلى الانشقاق عنه ليضع كتابه «من ميشال عفلق إلى ميشال عون» في كانون الثاني من العام 2003. ويؤكّد الخوري أنّ «كل ما يقوم به اليوم حزب القوات اللبنانية والأحزاب المسيحية الأخرى هو «لرأب الصدع الكبير الذي تسبّب به هذا الرّجل. وما استمرار هذه الحالة اليوم إلا بسبب الحقد وضحالة الثقافة الكيانيّة عند مجموعة من المسيحيين. فهو باعنا واشترانا ليحقّق مصالحه الخاصّة».
النقمة وفكّ الإرتباط
أمّا نقمة الخوري على عون بالتحديد فبدأت تزداد لأنّ «عون زجّ بالإطار العائلي في كلّ مفاصل التيّار الوطني وقام بتغييب الإرادة الشبابيّة بعدما وصل التيار إلى مرحلة تنظيميّة متقدّمة بتشكيل الهيئات وبانتخاب المسؤولين من خلال الاقتراع لرؤساء الهيئات. «والخلاف الكبير وقع بينه وبين العماد عون في لحظة لم يتوقّعها أحد حيث كما قال الخوري في حديثه «نسف عون كلّ العمليّة الديمقراطيّة وقام بتعيين 220 كادراً بالتنسيق مع صهره جبران باسيل وألان عون ونعيم عون، وبدون مراجعة أحد من القياديين».
فشكّل هذا التصرّف نقطة الخلاف الجوهريّ في العام 2003. يومها قال الخوري لعون: «لن أقبل بهذا التعيين لأنّ هذه المسألة فيها اختزال للأرواح، لأنّ أرواح هؤلاء لم تتعرّض لما تعرّضنا له كقياديّين مواجهين في أعتى المراحل. فهؤلاء كانوا بعيدين جدّاً عن مفاهيم الشجاعة بحيث واحد منهم كان مسافراً، وآخر كلّ ما كان يحمله هو عقد الزواج وعلاقة المصاهرة، والآخر رابط الدم». وحينها يعترف الخوري بأنّه أدرك جيّداً أنّ «عون يريد وضع يده على التيّار بالكامل».
كما يكشف الخوري أنّ عون عاد وعرض عليه الترشّح عن المقعد الماروني في المتن الشمالي من أصل أربعة مقاعد للموارنة، عبر طبيب زاره في منزله في قرنة الحمراء؛ لأنّ عون يدرك أنّ الخوري يملك قاعدة متنية صلبة تستطيع أن تؤمّن الفوز المؤكّد للائحته في المتن. كما كشف الخوري لـ»نداء الوطن».
ورفض هذا العرض لأنّه مدرك أنّ عون يحاول استغلال شعبيّته في المتن وعلّل ذلك قائلاً: «لا أستطيع أن أكون على لائحة شكّلها النّظام السوري». وبعد تلك الحادثة انهالت الاعتداءات على الخوري وعائلته من الذين درّبهم وأعدّهم يوم كانوا صغاراً في التيار.
أمّا في انتخابات العام 2005 فيكشف الخوري لنداء الوطن أنّ «الاتّفاق كان خماسيّاً وليس رباعيّاً على حدّ ما قاله أمين عام الحزب وقتذاك: «نحن في الدوائر التي وجب علينا أن نقترع للتيار الوطني قد اقترعنا». ويؤكّد الخوري لـ»نداء الوطن» أنّ «الاتّفاق كان خماسيّاً وليس رباعيّاً. ولكنّه خماسيّ من تحت الطاولة.
الديماغوجيا العونية
ويرى الخوري أنّ عون «قادر أن يأخذ مناصريه من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وهو الذي بدّل موقفه من السوري وتحالف معه. ومن السلاح غير الشرعي وتحالف معه، هو الذي اعتبر نفسه أب القرار 1559 ووضع الكتاب البرتقالي «الطريق الآخر» ليعود وينقلب عليه ويوقع تفاهم 6 شباط 2006 مع منظمة حزب الله ليقدّس سلاحها».
أمّا مقاربة الأستاذ إيلي محفوض لهذه الحالة فهي من النّاحية النفسيّة لا السياسيّة لأنّ «حقيقة التيار العوني تكمن في تكوينه من مزيج من الذين خاصموا كلّ الأحزاب المسيحية، إضافة إلى الكتلة الوطنيّة، المعطوف عليها اليسار لأنّ عون لم يظهر عقيدته الحقيقيّة إلا بعد العام 2005 بالتحديد. إن كان من حيث نظرته للإقتصاد اللبناني التي تنافي المبدأ الرأسمالي وصولاً إلى بدعة حلف الأقليّات التي تتعارض مع خطّ بكركي الكياني».
ويؤكّد محفوض أنّ «عون هو الذي رفع كتاب «نحن والقضيّة» ووضع يده بيد سمير جعجع لأنّه كان بحاجة لمن يحمي ظهره في حربه مع السوريين، وانقلب عليه. وهو نفسه الذي وقّع اتّفاق معراب وبعدما وصل إلى الرئاسة الأولى انقلب على توقيعه». ويشبّه محفوض الحالة العونيّة بمتلازمة ستوكهولم. «وهي حالة مرضيّة ثبتت وتمّ تدريسها في أهمّ الكتب وكبريات الجامعات». ويستشهد محفوض بقول أحد الضباط المتقاعدين (ويتحفّظ عن ذكر اسمه): «أستمتع بالإستماع إلى خطابات سمير جعجع لكنّني لا أقدر أن أراه، ولا أحبّ أن أستمع إلى خطابات ميشال عون لكنّني أحبّ أن أشاهده».
وفي موضوع العلاقة مع إسرائيل يقول الخوري إنّ «الاتّهامات التي كان يوجّهها دوماً إلى رئيس حزب القوات اللبنانية عبر جيشه الإلكتروني بالعمالة والصهيونيّة إنّما هو ترجمها عبر إيعازه لفايز كرم بفتح قنوات مع الإسرائيليّين».
إستشراف مستقبل حالة عون – باسيل
بالنسبة إلى الخوري «التيار الوطني الحرّ تمّ تدميره بكلّ قيمه وشبابه المخلصين للقضيّة. ما نراه اليوم هو حالة عون – باسيل التي انقضّت على التيار الوطني الحرّ وقضت عليه. «أمّا بالنسبة إلى التاريخ الماروني في لبنان فلم يشهد هذا «الغدر طوال السبعمئة سنة سوى المقدم سالم إبن الصبحا في بشرّي وميشال عون اليوم. لكأنّهما من ذرية واحدة! بكركي لم يعتدَ عليها إلا من المماليك ومن ميشال عون. حتّى السلطنة العثمانية بكلّ جبروتها لم تجرؤ على الاعتداء على بكركي».
وفي نظرة استشرافيّة لما بعد هذه المرحلة يرى الخوري «أنّ كلّ المؤشّرات تدلّ على أنّه من الصعوبة في مكان على فريق 8 آذار إيصال مرشّحه إلى رئاسة الجمهوريّة. وهذا ما سيرجع جبران وعمّه إلى منزليهما مع ذيول خيبتهما. إضافة إلى التشعبات التي توجد في قلب حالة عون – باسيل التي لن تسمح لها بالاستمرار. وستصبح نافرة أكثر. وإلا فما هو تفسير تقدم حزب القوات اللبنانية بهذا الشكل الكبير مسيحيّاً؟».
ويختم محفوض في هذا السياق إلى أنّ «التيّار العوني سيتحوّل إلى ما يشبه البدعة الاجتماعية أي بمعنى آخر عبادة الزعيم الذي تحوّل إلى صنم للعبادة فقط، بينما ظاهرته السياسيّة ستتحوّل إلى حالات نكايات سياسيّة لا أكثر».