مدير وأجير و35 موظفاً يقبضون ولا يعملون
مع إقرار مشروع قانون موازنة كل عام جديد، يطل اسم «مؤسسة أليسار» وما يُخصّص لها من موارد لتعود إلى الواجهة بتساؤلات كثيرة ومتكرّرة. 2 مليار و587 مليون ليرة هو المبلغ المرصود للمؤسسة في موازنة العام 2022. فهل ما زال المشروع قائماً؟ وإن كان كذلك، ما أبرز إنجازاته؟ ما هو عدد الموظفين العاملين فيه، وما هي المهام الموكلة إليهم؟ هل تتطابق موازنته مع مصاريفه الفعلية أم أنّه واحد من مشاريع «وهمية» كثيرة تكلّف ميزانية الدولة المليارات دون أثر يُذكر؟ أسئلة نحاول الإضاءة عليها قدر المستطاع في ما يلي بسبب الصعوبة البالغة لناحية الوصول إلى كثير من التفاصيل المرجوّة.
تواصلنا بداية مع أستاذة الدراسات الحضرية والسياسية في الجامعة الأميركية في بيروت، الدكتورة منى حرب، التي سبق ووضعت دراسة معمّقة عن الموضوع. فقد أشارت إلى أنّ مشروع أليسار يُعدّ من بين المشاريع الكبرى التي أُطلقت في سياق ورشة إعادة إعمار لبنان بعد الحرب الأهلية من ضمن التصوّر الذي مثّل توجّه أولى حكومات الرئيس الشهيد رفيق الحريري: الحداثة الحضرية والعولمة. وقد هدف إلى إعادة تنظيم منطقة الضاحية الجنوبية الغربية لبيروت حيث تنتشر حالات السكن غير المنظّم. المشروع أُنشئ عام 1992 وتحوّل إلى مؤسسة عامة في العام 1996. وهو صُمّم للمنطقة الجنوبية الغربية من طريق المطار القديمة، حيث يقطن نحو ثلث سكان بيروت والتي تُشكل جغرافياً الرقعة الممتدّة من جنوب بيروت إلى المطار وشرقاً إلى منطقتي الحدث والشويفات. يغطي المشروع مساحة 560 هكتاراً ويهدف إلى تطوير المنطقة الساحلية من خلال إنشاء طرق ومناطق سكنية جديدة، تساهم في توسيع بيروت عبر بوابة الضاحية باتجاه جنوب لبنان في منطقة يقطنها بين 120 و130 ألف نسمة، نحو 80 ألفاً منهم يقيمون في مساكن غير شرعية.. ومن ضمن خطط المشروع هذه المساكن في أحياء عدة مثل الجناح والأوزاعي وحرج القتيل وصبرا وشاتيلا وإعادة بنائها وفق قوانين التخطيط العمراني المحددة في المخططات التوجيهية العامة والتفصيلية للمنطقة، ما من شأنه أن يساهم في تطوير الساحل عبر إنشاء مناطق سياحية وخدماتية. إذاً باختصار، الهدف الأساس للمشروع كان استرجاع الواجهة البحرية لبيروت وإعادة الشاطئ الرملي إلى المدينة، حيث درج البيروتيون في فترة الستينيات على زيارة مسابح السان ميشال والسان سيمون والأكابولكو، ما يعزز إحياء المشاريع السياحية حول الشاطئ. فماذا حصل؟
تعديلات ومصاريف ولا إنجازات
بالتفاصيل، تمّ تطوير مشروع أليسار من قبل المكتب الخاص للرئيس الحريري الأب والذي ضمّ عدداً من المهندسين وأصحاب الاختصاص الذين عملوا في شركاته في كل من المملكة العربية السعودية وفرنسا. في العام 1992، تمّ إنشاء المكتب الخاص بالمشروع بهدف دراسة المشاريع المحتمل تنفيذها في بيروت، واقترحها الرئيس الحريري آنذاك على الحكومة بحيث تم الاتفاق على التعاقد مع شركات استشارية خاصة، منها دار الهندسة وشركة خطيب وعلمي.
والحال أن المكتب الخاص بالمشروع أبصر النور عام 1996. حاول الرئيس الحريري إنشاء شركة عقارية خاصة للضاحية الجنوبية (على غرار ما حصل في وسط بيروت/سوليدير) لكن ضغط الثنائي الشيعي على الحكومة يومذاك فرمل المحاولة حيث جرى، عوضاً من ذلك، تأسيس أليسار كمؤسسة عامة يكونان جزءاً منها. في العام 1995، تمكّن الرئيس بري من الضغط على مجلس النواب لإصدار مرسوم يمنع إنشاء شركة عقارية في الضاحية الجنوبية الغربية لتبدأ المفاوضات بين الرئيس الحريري ومندوبي الثنائي حول المخططات الهيكلية للمؤسسة بحيث تم التوافق عليها وإعلانها في حزيران من العام نفسه. بدورها، إستغرقت المفاوضات حول طبيعة المؤسسة واختيار أعضاء مجلس إدارتها سنة أخرى، إذ تم في آب 1996 الإعلان عنها بموجب مرسوم حمل الرقم 9043.حصلت مؤسسة أليسار منذ إنشائها في العام 1995 وحتى العام 2011 على نحو 184 مليار ليرة سواء من خلال الموازنات العامة أو سلف الخزينة أو نقل من احتياطي الموازنة إلى موازنة أليسار، بعض هذه النفقات خصّص لعمليات الإخلاء والكثير منها كان إخلاءات وهمية خضعت لاعتبارات سياسية، كما أنّ بعض الشاغلين نال تعويضات كبيرة تتجاوز كل ما هو منصوص عليه في الأنظمة والقوانين للشاغلين الشرعيين، وبعضها الآخر خصص للنفقات الإدارية. ومع حلول العام 1998، لم تكن المؤسسة قد امتثلت للجدول الزمني المحدّد لبناء المساكن إذ فضّلت، بدلاً منها، إنشاء طرق سريعة ومنشآت واسعة النطاق (منشآت رياضية، مستشفى حكومي، مدارس فنية)، إضافة إلى الطريق السريع الجديد الذي يربط المطار بوسط بيروت وجزء من الطريق السريع المؤدي إلى جنوب لبنان.
وقد جاء حينها تبرير التعديل على المهام نظراً للأهمية الاستراتيجية لتحديث طريق المطار. هذا وجرى في الأشهر الأخيرة من عمر حكومة الرئيس الحريري في العام 1998 تعليق المشروع نتيجة النزاعات حول الطريق السريع المؤدي إلى الجنوب عبر الأوزاعي، ما جعل أليسار يتحول من مشروع سكني إلى مشروع بناء طرقات سريعة.
بعد العام 2000، اقترح الرئيس الحريري مشروعاً لاستبدال أليسار بقرض كويتي تبلغ قيمته 150 مليون دولار أميركي يُخصَّص 120 مليون دولار منه للبنى التحتية وتنظيم المنطقة مع تشييد جسر طائر وتوسيع الطرقات. وفي العام 2002، بدأ بالفعل العمل على تنفيذ الجسر لكن أهالي المنطقة اعترضوا آنذاك ما أدى إلى تجميد المشروع مجدداً. ثم جاء العام 2004 حيث اقترح الحريري تحويل أليسار إلى شركة عقارية لكنّ اقتراحه جوبه باعتراض من قبل حزب الله. بعد اغتيال الرئيس الحريري، أعاد الرئيس فؤاد السنيورة في العام 2006 طرح الفكرة ثانية لكن دون جدوى. ومرّت السنوات وصولاً إلى العام 2017 حيث عاد مشروع أليسار مجدداً إلى الواجهة ليظهر في موازنة ذلك العام من جديد. الورقة الإصلاحية التي أصدرتها حكومة الرئيس سعد الحريري قبل استقالتها في محاولة لامتصاص غضب الشارع بعد اندلاع الاحتجاجات سنة 2019 جاءت بدورها على ذكر مشروعي أليسار ولينور (والأخير مشروع لردم وتطوير ساحل المتن من نهر بيروت إلى نهر الكلب ويشكل امتداداً لتطوير الساحل من وسط بيروت التجاري – سوليدير – إلى المارينا ضبية). وقد خُصّص للمشروعين في الموازنة في حينه مبلغ 5 مليارات ليرة. وها نحن اليوم أمام مشروع موازنة العام 2022 الذي خَصّص كما أسلفنا مبلغ 2 مليار و587 مليون ليرة لأليسار، مقسّماً ما بين رواتب وأجور بقيمة 2 مليار و241 مليون ليرة ونفقات جارية أخرى تبلغ 346 مليون ليرة.
أسئلة بلا أجوبة
لا بدّ من الإشارة في هذا السياق إلى معاناة الوصول إلى المعلومات المتعلّقة بالمشروع وخباياه بسبب احتكارها من قبل الجهات الفاعلة الرئيسية. ولا مبالغة في القول إن السائل يبدو كمن يبحث عن «إبرة في كومة قش». فعلى سبيل المثال، لم يكن للبلديات دور فاعل في خلال سير مراحل المشروع إذ تم تقييد عملية التواصل مع مؤسسة أليسار العامة، والتي تُعتبر المصدر الرئيسي للمعلومات. من جهتها، ترفض دار الهندسة، وهي من حيث المبدأ مصدر آخر للمعلومات، الردّ على أي استفسارات ذات صلة. كما أن المعلومات التي بحوزة الثنائي مُحكمة وغير قابلة للنشر. بالتالي، تمثّل وسائل الإعلام المصدر شبه الوحيد للمعلومات في ظل جو التكتّم السائد هذا. ومن نافل القول إن تعذّر الوصول إلى المصادر الوثيقة الصلة بالمشروع، يجعل موثوقية ما هو متوافر من معلومات موضع شك. لكن لا بأس من المحاولة.
أين إدارة التفتيش المركزي من كل ذلك؟ مع يقيننا المسبق أن الأجوبة الشافية قد لا تكون متوفرة هنا أيضاً، تواصلت «نداء الوطن»مع أحد مصادر الجهاز الرقابي وعلمت أنه على الرغم من الطلب في العام 2019 إلى جميع المؤسسات إرسال مسح شامل حول أوضاعها، إلّا أن أية معلومات لم ترده من مؤسسة أليسار. وماذا عن مجلس الخدمة المدنية؟ في اتصال مع المجلس، تبيّن لنا أن المعلومات التي بحوزته نتيجة المسح الذي طُلب في العام 2019 وأُرسل في العام 2020 على ذمة أليسار، تفيد بأن المؤسسة تضم موظفاً ثابتاً واحداً ألا وهو المدير العام و35 موظفاً يعملون تحت توصيف «مهام تعاقدية» إضافة إلى أجير واحد. هنا في عملية حسابية بسيطة، إذا قسّمنا المبلغ المخصّص في الموازنة للأجور (2 مليار و241 مليون ليرة) على عدد الموظفين (37) يكون معدّل الراتب الشهري للموظف الواحد أكثر بقليل من 5 ملايين ليرة. فبغض النظرعن الانهيار الحاصل في سعر الصرف وإذا ما أخذنا في الاعتبار الحدّ الأدنى للأجور، هل هذا راتب منطقي لموظف في مؤسسة غير فاعلة لا بل يجوز القول قد طواها النسيان؟
بضعة تساؤلات أخيرة تطرح نفسها ختاماً: إذا كان مشروع أليسار قد أُطلق أساساً ليُعنى بشأن إسكاني، فَلِمَ لا تقوم الحكومة بإلغائه ودمجه من ضمن المؤسسة العامة للإسكان، شأنه في ذلك شأن صندوق المهجرين؟ أليس من الأفضل توحيد المشاريع ذات الطابع الإسكاني تحت إدارة واحدة تعمل بالتنسيق مع المديرية العامة للتنظيم المدني؟ ثم ألا يساهم ذلك في تجنيب السكان كارثة حقيقية قد تنتج عن المساكن الشعبية العشوائية التي لم تخضع أساساً لأية ضوابط هندسية سليمة ما يجعل منها قنبلة موقوتة تهدّد أحياء سكنية بكاملها؟
يُجمع العارفون على أن مزيجاً من المصالح السياسية/المالية والمخاوف الديموغرافية/الطائفية يقف خلف عرقلة المشروع. لكن في مطلق الأحوال، نحن أمام مؤسسة فشلت فشلاً ذريعاً في تحقيق أهدافها. ومع ذلك، ما زال طيف تكاليفها غير المبرّرة – أسوة بغيرها الكثير من الكيانات – رفيقاً دائماً لموازنات العجز وشق الأنفس. إنها حقاً دولة الغرائب والعجائب.