بشكل أو آخر، تتقاعس الحكومة العراقية في الشروع بأي خطط جدية لإعمار مدينة الموصل، خاصة الساحل الايمن منها، لأنها تنتظر أن ينفذ المجتمع الدولي تعهداته بشأن التكفل بهذه المهمة.
لكن سفارات ومسؤولين غربيين باتوا يلوحون بالانسحاب ليس من مشروع إعمار الموصل فقط، بل من حزمة المنح والقروض والاستثمارات التي أقرّها مؤتمر الكويت وتصل إلى 30 بليون دولار، ويرون أن التخصيصات الحكومية لموازنة الموصل والتي لم تتجاوز 120 مليون دولار فقط لعام 2019 تعكس تنصلاً من بغداد تجاه التزاماتها.
وحتى نصف الحالة بشكل أوضح، فإن الحكومة العراقية والمانحين على حد سواء، ينتظر كل طرف منهم أن يرى مبادرة من الآخر حتى يتحرك باتجاه الموصل، والنتيجة أن خراب المدينة بعد عام من تحريرها وأكثر شاخص ومخجل، والأهالي لم يعودوا إلى منازلهم، بل إن بعضهم ما زال في خيم النزوح.
في الهامش، هناك تفاصيل وتعقيدات ورثتها الحكومة الحالية من سابقتها، تتعلق بالآلية التي سيتم من خلالها إنفاق المنح الدولية حول المناطق المحررة من «داعش»، في ظل أجواء عدم الثقة والفساد التي تحيط بالمشهد العراقي عموماً، وتدفع المانحين إلى وضع الكثير من الأسئلة والتعقيدات لصرف الأموال، وفي ضوء المنظومة البيروقراطية الهرمة للمؤسسات العراقية، والتي لا تتيح بدورها نمطاً مرناً للتعامل مع الأموال القادمة من الخارج، وأيضاً بسبب عدم وجود طرف محايد بين الجانبين يمكنه أن يتولى ضبط هذه المهمة على خلفية تجارب شابها الفساد والتبديد في مشروعات منظمات الأمم المتحدة التي عملت في العراق طوال السنوات الماضية.
التفاصيل، تستدعي تفاصيل أخرى، فمسؤولون حكوميون في دولة الكويت التي احتضنت مؤتمر إعمار العراق مطلع 2018 وتبرعت بدورها ببليوني دولار، عرضوا على مسؤولين عراقيين -بحسب مصادر مطلعة- أن تقوم بلادهم بدور الوسيط لتسوية التعقيدات بين المانحين والحكومة العراقية، وأن ذلك يستدعي من الأخيرة أن تكون جادة في عرض خططها وآلياتها للشروع في الإعمار.
واقع الحال أن حكومة بغداد تعتقد، وهي محقة، أن كل مدن العراق بحاجة إلى الإعمار وليس الموصل فقط، وأن خطط الإعمار والاستثمار الخارجي يجب أن تخضع في نهاية المطاف إلى معايير خريطة التخطيط العراقية، بما يضمن استثمار الأموال في مكانها الصحيح، ليكون تأثيرها إيجابيا على الاقتصاد العراقي بالمجمل.
وهذه نظرة سليمة من حيث المبدأ، إلا إذا أدت إلى تنفيذ المانحين تهديداتهم بسحب تعهدات مؤتمر الكويت، والتوجه إلى مناطق أخرى في العالم قد يرون أنها أكثر حاجة من حاجة العراق كدولة نفطية لم تتفاعل كما يجب مع التعهدات الدولية، فيما أن تلك التعهدات لم ترتق في الاساس إلى ما كان ينتظره العراق فعلياً من المجتمع الدولي من مساعدة على إنهاء الظروف التي قادت إلى ظهور تنظيم «داعش».
مرحلة الحسابات المعقدة، قد يكون ثمنها غالياً، وبغياب حكومة محلية في الموصل قادرة على المطالبة بحقوقها، سيكون أمام المدن المحررة سيناريوهات أقلها خطراً هو صرف النظر عن الإعمار برمته.
بغداد إذاً أمام مهمة انقاذية لإجبار المانحين الإقليميين والدوليين على التعامل معها مباشرة أو من خلال شركاء، لأجل البدء في مشروعات الإعمار التي تمتد لمعظم المحافظات العراقية، ويجب أن تنطلق سريعاً لتستقطب الأيدي العاملة، وقد يكون تشكيل لجنة وزارية عليا لهذا الغرض بإشراف من أعلى الرئاسات في البلد، خطوة إيجابية تبدد الشكوك في جدية الحكومة العراقية في هذا الملف.
إن المبادرة إلى التفاهم والمرونة وتذليل العقبات لتطبيق مقررات مؤتمر الكويت، ستكون مثالاً جيداً لمستقبل التعاطي العراقي مع العالم، بعد سنوات طويلة من الأمثلة السيئة، والتفاهم ليس معجزة على الحكومة العراقية تحقيقها، بل سياق وواجب طبيعي يشجع على المزيد من الثقة بالعراق كدولة عليها النهوض لإعادة التوازن الاقليمي، واستعادة قدرتها على النجاح.