ثلاثة خطابات متوالية، قتالية النزعة، أنعم بها الأمين العام لحزب الله على حزبه وعلى الطائفة الشيعية وعلى اللبنانيين والسوريين. ومؤدَّاها أنه مستعدٌّ للقتال في كل مكانٍ، ولو أدى ذلك لهلاك نصف الطائفة الشيعية أو ثلاثة أرباعها من أجل الحياة الحرة والكريمة (!). لكنه وهو يقاتل من أجل الحياة الكريمة هذه (يعني هل هو ذليلٌ الآن؟!) توعَّد فئاتٌ من شبان الطائفة الشيعية وكهولها سمّاهم: «شيعة السفارة» الأميركية في بيروت، بالويل والثبور وعظائم الأمور. فحبكت معي النكتة، وتذكرتُ فيلمًا لعادل إمام اسمه: «السفارة في العمارة»، عن المشكلات التي تعرض لها رجل مصري اكتشف أنه يسكن في عمارةٍ بالقاهرة استأجرت فيها أيضا السفارة الإسرائيلية بعد اتفاق كامب ديفيد.
لقد دخلت السفارة إذن إلى قلب الطائفة، ونصر الله يهدد الذين يعارضونه من الشيعة بالاستئصال باعتبار أنهم جواسيس للولايات المتحدة، التي تجهد إيران من سنوات لعقد اتفاق معها حول كل شيء وليس حول النووي فقط! إنما إيران في نظر الأمين العام للحزب فوق الشك والمساءلة، أمّا كل الآخرين فهم كما يقول اللبنانيون تحت الغربال.
يقيم نصر الله تقديره بأنّ الحرب طويلة، وأنها يمكن أن تُفني نصف الطائفة الشيعية، على أمرين اثنين: أنّ أميركا متآمرة على إيران وعلى المقاومة وعلى الإسلام، وأنّ السعودية وقطر وتركيا اتفقت على العمل معًا ضد إيران والحزب في سوريا والعراق. وإذا كان ذلك صحيحًا (وهو على أي حالٍ مؤكَّد لدى الأمين العام) فمعنى ذلك انقلاب الزمان، فإلى أشهر قليلةٍ مضت، كان الأمين العام للحزب يقول إن هذه الدول جميعًا حليفة لـ«داعش»، وهو يدعو الولايات المتحدة للتحالف معه ومع بشار الأسد لمكافحة الإرهاب. أمّا الآن، فإنّ الولايات المتحدة التي أطلقت حملةً على «داعش» في سوريا والعراق منذ تسعة أشهر، متهمة بالانضمام إلى الحلف الذي يضم السعودية وقطر وتركيا، وليس لمقاتلة «داعش»، بل لمقاتلة إيران ونصر الله!
فلندع المزاح والإلزامات لخطابات نصر الله المتناقضة، ولننظر في الواقع، واحتمالات المستقبل القريب. لقد أجاب نصر الله على انتكاسات الأسد بحربٍ في القلمون. والحرب في القلمون لا تستطيع صَون الأسد وحكمه، لكنها قد تستطيع تأمين الطريق بين دمشق وحمص والساحل، والحدود مع لبنان للفترة القصيرة القادمة. وإذا كان المقصود حماية الأسد ونظامه لأطول فترة ممكنة، فسيكون على نصر الله الذهاب إلى حمص فاللاذقية للمساعدة في التحصين والحماية. كما يكون على الحزب وميليشياته الامتداد على الحدود اللبنانية، ليظل الطريق مفتوحًا، كما يكون عليه المساعدة في استعادة بلدات الغوطة الغربية والشرقية. ثم يكون عليه أيضا حماية وجه دمشق فيما صار يُعرف بالجبهة الجنوبية مع الأردن في الأقرب، ومع الجولان المحتل في الأبعد.
ماذا جاء علي أكبر ولايتي صهر خامنئي ليقول لنصر الله قبل الأسد؟ في الظاهر جاء ليهنئه بالنصر الإلهي في القلمون، والذي لم يحصل بالطبع. أما في الواقع، فإنه جاء ليقول له إنّ الحرب طويلة، وإنّ إيران مضطرة للاستمرار في خوضها حتى تتوفر عدة شروط: الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة، واستعادة العراق، والنظر في العلاقة مع الحوثيين، وبدء المحادثات مع المملكة العربية السعودية وبماذا يمكن في مراحلها الأولى أن تأتي به. وهذا كله يمتد على عدة سنوات. وخلال هذه المدة هناك احتمال أن تشن إسرائيل حربًا على حزب الله وصواريخه، لإزعاج إدارة أوباما، وخلْط الأوراق، بحيث تكون لها كلمة في الانتخابات الأميركية، وفي مستقبل سوريا ولبنان. وكلُّ هذه الأمور، «وليس في الميدان غير حديدان»، كما يقال. فكل القوات التي يستطيع الحزب أن يحشدها لا تزيد على الأربعين أو الخمسين ألفًا. وفضلاً عن العجز عن الانتشار الواسع والشاسع، والقتال كل الوقت لأعداء يقفون أمامك ووراءهم ملايين الشعب السوري تنتظرهم، هناك الارتهان للبنان رئاسةً وبرلمانًا وحكومةً والذي ما عاد ينتظر. ونصر الله يهدد الشبان الشيعة المعارضين بالقتل لأنهم عملاء، ويقول للسنة والمسيحيين: إن لم تكونوا معنا في مواجهة الإرهاب، فاسكتوا وإلاّ. والخصوم هؤلاء يتجرأون أكثر من السابق، لأنهم يعرفون أن نصر الله مشغول اليدين، لكنه يمكن أن يكونَ عنيفًا.
هناك إذن ضغوط الواقع القاسية والقاتلة في العراق وسوريا ولبنان. والخطة العاجلة تسكين لبنان ولو بالقوة، وليس تهدئة الوضع بانتخاب رئيس مثلاً. والخطة العاجلة في سوريا إقامة منطقة شيعية – علوية محمية فيما بين دمشق والساحل. والخطة العاجلة بالعراق التسابق بين إيران وأوباما في إخراج «داعش» من المحافظات التي احتلتها. وكل تلك خطط على هشاشتها مكلفة كثيرًا، ولا تصمد طويلاً. لأن «داعش» لا يزال يتقدم في العراق وسوريا، ولأنّ خصوم الأسد وحزب الله الآخرين يتقدمون أيضا في كل مكان.
ما عاد أحد يأمل بمستقبلٍ لعراق موحد. وعلى الأقل وفي الحد الأدنى لا بد أن تقوم الأقاليم. أما في سوريا وحتى لو قام الإقليم الشيعي – العلوي، والذي أكثر من نصف سكانه من السنة، ماذا تفعل بالـ19 مليون سني، والذين يشكلون أكثرية حتى في اللاذقية وطرطوس؟! الاتحاد الأوروبي خرج قبل أربعة أيام بحديثٍ عن الحل الإقليمي، أي توافق على التهدئة تشارك فيه القوى الإقليمية (إيران والعراق والسعودية ومصر)، ويحضره الأميركيون والأوروبيون والروس والأمم المتحدة والجامعة العربية – وحول ماذا؟ حول سوريا والعراق.
لقد كان الوضع قبل سنتين مختلفًا. الدول العربية في مواقع الدفاع في مواجهة إيران وميليشياتها والإرهاب الآخر. والوضع اليوم أنّ إيران في مواقع الدفاع في كل مكان، دون أن يعني ذلك أن الطرف العربي قد أعدَّ البديل الجاهز! قليلةٌ هي الدول العربية التي تعتبر نفسها معنية ومسؤولة. ثم لنكن واقعيين: قليلة هي الدول العربية التي تملك قدراتٍ وإرادة. لكن من ناحيةً ثانيةٍ فإنّ إيران وفي هذه المنطقة بالذات لا تفاوض منذ العام 2003. ما تفعله أنها تسلّط ميليشياتها على تخريب البلدان والعمران وتعتبر ذلك نشرًا أو تصديرًا للثورة، وإنشاء لمناطق النفوذ. لقد كان أنصار إيران هم المقاومة والممانعة. واليوم فإنّ العرب هم الطرف المقاوم والممانع. ولديهم مهمتان: الصمود والتقدم لإرغام إيران على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، وتطوير استراتيجيات وبدائل لسوريا والعراق وليبيا، تشبه ما حصل لليمن.
جاء علي أكبر ولايتي إلى لبنان إذن ليحثّ نصر الله على الاستمرار في القتال لعامين آخرين. لكنّ الصبر لا يفيد شيئًا غير زيادة الخسائر: نصر الله يقاتل الشعب السوري على أرضه ولا بقاء له هناك!