يسأل كثيرون: في لبنان الواقف على حدِّ الغليان المذهبي والفتنة، وحيث لا تسقط شعرة إلّا بإرادة أرباب أجهزة الأمن المتصارعة، من أين جاءت كلّ هذه الجماهير إلى الحراك المدني، وكيف «تفرِّخ» الجمعيات «التغييرية» يومياً كالفطر، وكيف استطاعت مقاومة المندسِّين وماكينات الأمن الهائلة، ومنها ماكينة «حزب الله»؟
يُجيب المتابعون: الحراك المدني ليس صُدفة. فهناك ماكينة جماهيرية- إعلامية تصنعه. وبكلمة أخرى، هو ليس يتيماً، بل يحظى بغطاءٍ دولي، وخصوصاً أميركي.
بعض الذين التقوا السفير الأميركي ديفيد هيل أخيراً سمعوا منه انتقادات للطاقم السياسي اللبناني الذي يدفع لبنان نحو عدم الاستقرار الدستوري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والأمني.
فالمؤسساتُ آيلة إلى الاهتراء والتعطيل. وبعد الفراغ الرئاسي، يتعطّل المجلس النيابي والحكومة. وإذا سقطت الحكومة فسيكون الوضعُ كارثياً، إذ سيتعذّر قيامُ أخرى، وستقع فوضى دستورية لها تردّدات سياسية واقتصادية واجتماعية وربما أمنية.
لذلك، بالنسبة إلى واشنطن، ممنوع سقوط الحكومة، ويجب العمل سريعاً لانتخاب رئيس وتحريك المؤسسات. وهناك مخاوف من عواقب مالية بدأت الهيئات المالية الدولية تحذّر منها.
وفي بعض الأوساط أنّ الفرصة مُتاحة لتسوية مرحَلية في لبنان، بعد الاتفاق مع إيران. وغالباً، لا تتمّ التسويات إلّا بالضغط. لذلك، فالحراكُ المدني يحظى بحماية أو رعاية أميركية. فهو بابٌ لبلوغ «دوحةٍ» جديدة.
في تموز، زار هيل رئيسَ الحكومة مودِّعاً لإنتهاء مهمته. ثمّ صعد إلى اليرزة مودِّعاً قائد الجيش العماد جان قهوجي. وفي الأشهر الأخيرة، حصل الجيش على دعم عسكري أميركي نَوْعي لمواجهة الإرهاب. فتوطَّدت الصداقة بين الأميركيين وسفيرهم من جهة، ومؤسسة الجيش وقائدها من جهة أخرى.
لكنّ مأزق البعثات الديبلوماسية في بيروت مستمرّ. السفيرُ الأميركي كما الفرنسي باتريس باولي الذي تنتهي مهامه هذا الشهر، كما سواهما، إلى مَن يسلِّمون أوراقَ اعتمادهم في غياب رئيس الجمهورية؟ وبات الجميع راغباً في عودة الأصيل (الرئيس) بدل الوكيل (مجلس الوزراء).
في أيّ حال، غادر هيل إلى واشنطن مطلعَ الصيف، لكنه عاد إلى بيروت بدلَ الانتقال إلى مركزه الجديد كسفير في باكستان. وهذا التأخُّر استدعته زحمة السفراء المنتظِرين أدوارهم للمثول أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ. ثمّ جاءت العطلة الصيفية في آب.
واختار الرئيس باراك أوباما نائبة مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط إليزابيت ريتشارد لتكون سفيرة في لبنان، ويُفترض وصولها هذا الشهر. وفي هذه الأثناء، أمضى هيل الصيفَ في عوكر.
لقد كان مناسباً تأخير مغادرة السفير. فإدارته تُفضِّل استمرارَه في متابعة الملف اللبناني لأنه من أكثر المطّلِعين عليه، ولأنّ أيّ سفير سيخلفه لن يكون متمتعاً بالمستوى إياه من الدراية بالملف، علماً أنّ ريتشارد قريبة من وزير الخارجية جون كيري. وفي إطار عملها، كان لها إشرافٌ على تزويد الجيش اللبناني بالمساعدات العسكرية. ولكن، يبقى تعاطي هيل مع الملف اللبناني حالياً أكثر فائدة.
اليوم، هناك مرحلة جديدة يريد الأميركيون تحضيرَ لبنان لها. وهم يرون في الحراك الشعبي المتحرِّر من الالتزامات السياسية والطائفية أداة لبلوغ ذلك، فتدخّلوا لحمايته.
في الأيام الأولى من الحراك، بدا السراي الحكومي مهدَّداً، ومارست القوى الأمنية فائض القوة مع المتظاهرين. فزار هيل السراي، وأبلغ سلام أنّ واشنطن تدعم حكومته بلا حدود في وجه أيّ محاولة لإسقاطها في الشارع، وهو يرفض استقالتها. لذلك، توقّف سلام عن التلويح بالاستقالة. كما نقل هيل هذا الموقف إلى العماد ميشال عون.
ولكن، في المقابل، كان السفير حازماً في رفضه قمع المدنيين. وذكَّرت السفارة بأنّ الدستورَين اللبناني والأميركي يتيحان الحراك الديموقراطي. وأبلغ الوزير نهاد المشنوق بهذا الموقف الذي أكّده الناطق باسم الخارجية. وينظر الأميركيون بإيجابية إلى موقف الجيش، فهو تعاطى بحكمة ولم يرتكب خطأ، ولم يتدخّل إلّا لوقف التخريب الذي مارَسه مندسّون في الممتلكات العامة والخاصة.
ويُحاذر الأميركيون أن تقع السلطة اللبنانية في القمع الذي مارسته الأنظمة مع الحراك الشعبي في دول «الربيع العربي». لكنّهم أيضاً يحاذرون أن تتحوَّل الانتفاضات إلى فوضى وصداماتٍ أهلية.
وهكذا، فالسيناريو الذي يتوقّعه البعض هو الآتي: تحت الضغط الشعبي، تتعطَّل الحكومة لكنّها لا تسقط، لأنّ سقوطها ممنوع دولياً. وعلى الأثر، يجرى استنفار دولي- إقليمي للإنقاذ، وتعقد القوى الداخلية جلسات حوار أو تشاور «على الحامي»، ثمّ تسارع إلى تسوية جديدة تشمل الرئيس والحكومة وقانون انتخاب ومجلساً جديداً، ويجرى تنفيذ فصول التسوية تباعاً خلال الخريف والشتاء.
ستمارس واشنطن ضغوطها لتسهيل التسوية، وتساوم طهران. ولأنّ قطر فقدت موقعها الوسيط بين السعودية وإيران، فثمّة توقعات بأن تشهد عُمان ولادة التسوية، أو ربما الكويت التي لم تقطع الجسور مع طهران.
هذا السيناريو متداوَل في الأوساط المتابعة. ولكن، هناك مَن يخشى المفاجآت السلبية. فالحراك الجماهيري «البريء» معرَّض للوقوع فريسة الذين ينتظرونه «على الكوع» ليستثمروه. والتحدي هو: هل تملك واشنطن ما يغري إيران وحلفاءها للقبول بالصفقة فلا يعطّلونها؟ وما هو؟