موضوع ما كنت لأتطرق له لولا تعقيدات وصعوبة الأوضاع في بلادنا التي تتطلب بحسب رأيي جهراً بالحقيقة. هذه ضرورية ولازمة في الأوقات الحرجة، من أجل أن يستجمع الناس أفكارهم وقوتهم دفاعاً عن حقهم في الحياة وفي الوجود ! يلح علي منذ أن اشتعلت الحرائق التي سميت إعتباطا وعَسْفا، «ثورات» و«ربيعات»، سؤال عن الأسباب الملموسة للعداوة التي شكلت في البلد الواحد وقوداً للإحتراب المتواصل بين أقوام تعايشت على الرغم من خلافاتها، وخاضت معاً نضالات ضد المحتلين والمستعمرين والمتسلطين، وبادرت في بعض الأقطار إلى وضع أسس دولة وطنية والى الإنضمام للدعوة إلى اتحاد عربي كاطار يتجسد في فضائه المشترك الثقافي والتكامل الإقتصادي والتعاون والتضامن في مسيرة حضارية وفي مواجهة الجشع الإستعماري!
يفترق الناس ويتلاعنون ويحتربون في البلاد التي عصفت بها ثورات مساراتها مرتهنة بإرادة الولايات المتحدة الأميركي ! لا شك في أن ذلك مثير الريبة. لا سيما أن دولاً أوروبية صارت ذيلية، بالإضافة إلى أن آل سعود ومشايخ الخليج تعهدوا هذه الثورات إلى جانب العراب الأميركي.
في الواقع إن السؤال هو ما هي أسباب التخلف، والتقهقر، في جميع المجالات. صارت الديانات تجمعات خالية من الدين، والمذاهب تحاكي الكيانات القبلية القديمة. تسلم الريادة في أكثر الميادين، الأقل كفاءة والأضعف أمانة. كيف انقسم الناصريون والبعثيون والشيوعيون الذين وقفوا إلى جانب المقاومة الفلسطينية، ضد قمع نظم الحكم العربية، وقاتلوا المستعمرين الإسرائيليين في صفوفها، كيف انقسم هؤلاء فصار جزء منهم، سراً أو علانية، يستنصرون بآل سعود والولايات المتحدة الأميركية، الذين سخطوا على الأطراف الأخرى التي ترفض رغم العجز والقصور الإستسلام للمستعمرين الإسرائيليين! المفارقة في هذا السياق هي بحسب رأيي، هي في أن الذهنية القبلية والعصبية، ما تزال تفعل فعلها في حياتنا السياسية والإجتماعية، وتحديداً في ولاءاتنا وتقلـّبات مواقفنا. ليس فقط في مجال التنافس الداخلي، ولكن في علاقاتنا ومعاملاتنا مع الجهات الخارجية العدوة والصديقة. ما أود قوله في الحقيقة هو الآتي: نحن لا نميز الخصم السياسي الداخلي من المستعمر المستوطن على أرض استولى عليها بالقوة والخداع. أغلب الظن أن الخصومة بين مكونات المجتمع ليست سياسية، أين المشاريع السياسية التي نتنازع أو نتحاور حولها؟ كما أني أعتقد أن الذهنية القبلية والعشائرية هي غير قادرة على استيعاب مفهوم الإستعمار الإستيطاني. كأن التصدي للمشروع الإستعماري الإسرائيلي مسألة خيار أو ميل، وليست مسألة وجود!
«على كل لبناني، كما على كل سوري، أن يتذكر أننا الجيران المباشرون لهذا المطمع ولهذه القوة، وان المشروع الإسرائيلي لن يعرف التوسع المأمول إلا بمروره على أجسادنا..» ( 4 تشرين أول 1947 ـ ميشال شيحا).
بناء عليه لا غرابة في أن يتجند بعض الناس في بلاد العرب في جيوش الوكالات الأمنية الأميركية وفي أن يتقاضوا مرتبات من آل سعود أو من آل ثاني، وأن يقاتلوا أناسا آخرين، في بلاد العرب، إرتأى الأميركيون والمستعمرون الإسرائيليون، أن قتالهم في الراهن هو أولى.
لنتذكر، لعل الذكرى تنفع، في البدء أعلنوا الحرب تلو الحرب على الناصرية إلى أن هزمت. ثم انتقلوا إلى معالجة المقاومة الفلسطينية إلى أن تشوهت ووهنت، فأمكن طردها، حتى استلبتها أفكار المستعمرين. بموازاة ذلك ظهر العسسُ بلادنا من الوطنيين الذين كانوا يحلمون بمحو الأمية وبإطعام الجوعى وبعلاج المرضى. لم يبق الآن إلا المذاهب والأعراق.. إن شيعة السفارة وسنة آل سعود، وكرد البارازاني لا يصنعون ثورة !