ما بين العامين 2010 وحتى 2012، نفذت إسرائيل سلسلة عمليات اغتيال في ايران طالت علماء يعملون على البرنامج النووي الايراني، ما أدى الى تصفية 5 منهم وفشل عملية سادسة. وتوقفت هذه العمليات بعد ضغوط من ادارة الرئيس الاميركي السابق باراك اوباما، التي كانت قد تَلقّت جواباً إيرانياً بالموافقة على المشاركة في مفاوضات متعددة الجنسيات عُرفت في ما بعد بدول 5+1، والتي أدّت في النهاية الى توقيع الاتفاق النووي في العام 2015. لكنّ اغتيال رئيس فريق العلماء الايرانيين فخري زاده لا يشبه ما حصل يومها.
صحيح انّ اسرائيل هي الطرف الذي تولى التنفيذ، لكنّ الاغتيالات السابقة استعانت بمجموعات ايرانية معارضة، فيما اغتيال الامس تَطلّب تحضيراً أكبر واحترافاً رفيعاً، وربما مشاركة اسرائيلية مباشرة، والأهم موافقة الادارة الاميركية برئاسة دونالد ترامب. فالاغتيال طالَ رئيس البرنامج، وهنالك مَن يشَبّه فخري زاده بروبرت اوبنهايمر، وهو العالم الاميركي الذي أشرفَ على مشروع منهاتن منذ اكثر من 75 عاماً في سَعيه لتطوير أول سلاح نووي في العالم.
وبالتالي، فإنّ الرسالة الاولى التي حملها الاغتيال هي إعاقة تطوير البرنامج النووي الايراني. لكن هناك رسالة ثانية أهم من الاولى وعنوانها الرئيس الاميركي المنتخب جو بايدن قبل حوالى 7 اسابيع من استلامه السلطة.
ذلك انّ هنالك مَن قرأ في الاغتيال سَعياً من ترامب ونتنياهو معاً لإعاقة مشروع بايدن بالتواصل مع ايران من خلال خطة ديبلوماسية يجري وضعها. فالواضح انّ الدفعة الاولى من تَسميات بايدن لرجال إدارته طالت متخصّصين في ملف التفاوض مع ايران، وفي طليعتهم وزير الخارجية ومستشار الامن القومي.
وهو ما يعني ايضاً انّ ترامب، الذي سيغادر البيت الابيض في 20 كانون الثاني المقبل، يزداد خطورة. ومعه لا بد من التحَوّط من خطوات إضافية تهدف الى تصعيد التوتر مع ايران فوق حدودها الحالية، بحيث «يُهدي» ترامب خليفته، الذي لم يَستسِغه، يوماً واقعاً صعباً ومعقداً ومتفجراً يقف حائلاً امام مشروعه السياسي في الشرق الاوسط.
في تسمياته الاخيرة، أظهرَ بايدن انه يضع الديبلوماسية في المصاف الاول، مع تراجع في التركيز على الجيش. وهو يدرس مثلاً تعيين الجنرال لويد اوستن كارل وزير دفاع أسود البشرة، وهي رسالة للداخل الاميركي قبل ان تكون مؤشراً لمشاريع عسكرية.
صحيح انّ القيادة العسكرية الاميركية وضعت، عقب اغتيال فخري زاده، حوالى 40 الف جندي اميركي في الشرق الاوسط في حال تأهّب عالية نسبياً، لكنّ الرصد الاميركي لم يلاحظ ايّ تحركات عسكرية ايرانية غير عادية ولا ايضاً تركيز أسلحة جديدة.
جون برينان، وهو المدير السابق للـ CIA وأحد أقوى الداعمين لبايدن ولتوجهاته في السياسة الخارجية، دعا ايران الى الامتناع عن الرد. والأرجح انه كان يتكلم نيابة عن بايدن، الذي يخشى نجاح ترامب في اغتيال برنامجه الديبلوماسي قبل انطلاقه.
وهذا ما عَبّر عنه ايضاً نيكولاس بيرنز مساعد وزير الخارجية الاميركية سابقاً، والذي شارك ايضاً في مفاوضات الملف النووي. فهو قال انه لا ينبغي ان تستخدم القوة لأنّ الضربات العسكرية لن تؤدي الى حلول نهائية، بل الى الحروب. وحده برنامج الديبلوماسية الصارمة هو الأكثر ذكاءً ونفعاً.
ذلك انّ الدخول في العقل ورَد الفعل لن يؤدي الى نتيجة فعلية، لا بل على العكس فإنّ ايران ستتجه الى بناء برنامجها النووي اكثر فأكثر تحت الارض، حيث سيصعب كثيراً ضربه او قصفه.
وقبل أشهر، جرى استهداف مصنع تجميع اجهزة الطرد المركزي في منشأة نطنز الرئيسية، وهو ما أدى الى انتكاسة مؤقتة ولكنه لم يؤدِ الى إيقاف البرنامج.
بالتأكيد، إنّ اغتيال فخري زاده مسألة مختلفة، لكنّ المبدأ لا يتغير.
اسرائيل تقول انه بعد فخري زاده من الصعب على ايران الاستمرار ببرنامج نووي، لكنّ ايران قالت انّ برنامجها النووي حقق تقدماً هائلاً وهو لا يعتمد على شخص واحد.
روبرت مالي، الذي شارك في المفاوضات حول الملف النووي، شَكّك في نجاح الهدف من الاغتيال أي باغتيال المفاوضات، ذلك أنه من الواضح انّ الايرانيين، الذين حَسبوا بدقة وبعيداً من الانفعال أثر اغتيال قاسم سليماني، يمتلكون عقلاً بارداً في التفاعل مع الاحداث الصعبة والحامية.
قد يكون رئيس وحدة شعبة الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية السابق عاموس يادلين وحده مُحقاً في تَوقّع ما سيحصل، فهو قال للقناة 12 التلفزيونية انّ ايران قد ترد على الاغتيال في الدقائق الاخيرة لولاية ترامب، وقبل ساعات من بدء ولاية بايدن. عندها، سيكون التوقيت قاتلاً. قبل ذلك حاول ترامب لعب أوراقه كافة في الشرق الاوسط في وجه بايدن، فأعلنت اسرائيل عن اجتماع ثلاثي بين بومبيو ونتنياهو ومحمد بن سلمان، فيما نَفته السعودية. الهدف كان الاعلان عن توحيد الجهود ضد ايران. لكنّ السعودية تحسب جيداً، وتدرك انّ التصعيد في وجه ايران الآن هو تصعيد في وجه المشروع السياسي لبايدن، في وقتٍ لم تخفِ ادارة ترامب انّ طموحها يجعل من الصعب على بايدن استئناف المحادثات مع ايران، ذلك انّ ايران تشعر بالراحة اكثر في الرد في الخليج. وهي كانت قد وجّهت رسالتين ناريتين رداً على التهديدات الاميركية باستهداف ايران عسكرياً.
الرسالة الاولى جاءت من خلال الحوثيين بقصف صاروخي على خزانات نفط لشركة ارامكو شمال جدة.
والرسالة الثانية جاءت من خلال لغم بحري انفجر بناقلة نفط مملوكة من اليونان في ميناء البحر الاحمر. وواضح انّ الرسالتين حملتا عنواناً واحداً: «يدنا طويلة في الخليج».
ووفق ما تقدّم، فإنّ الاسابيع السبعة القادمة هي بمنتهى الخطورة. والأهم انّ بداية ولاية بايدن ستركز على الملف الايراني الصعب والمعقد، وبالتالي فإنّ النصف الاول من السنة القادمة سيشهد ايضاً رفعاً لسقف ايران، والذي سيبلغ ذروته مع الانتخابات الرئاسية في شهر حزيران المقبل.
واستطراداً، فإنّ «الدلع» اللبناني حول حصص الحكومة فوق جمر الانهيار الاقتصادي والمالي الحاصل يَبدو كَمَن يلعب لعبة الروليت الروسية.
ونقل عن السفير الاميركي السابق في لبنان جيفري فيلتمان تأكيده بأنّ لبنان لن يكون على رأس جدول اعمال السياسة الخارجية لبايدن. ووفق فيلتمان، فإنّ ادارة بايدن ستركّز على الملف الايراني الى جانب سياستها في اتجاه اسرائيل وسوريا. وبالتالي، فإنّ ما سيصيب لبنان هو ما سيتفرّع من هذه الملفات. وهو ما يعني أنّ التركيز الاميركي المقبل سيطال في مرحلة ثانية بناء إطار عمل لمفاوضات الحدود البحرية وخارج ذلك لا شيء تقريباً.
وهنا ربما تبرز اهمية المبادرة التي يتولاها ماكرون، فالتفاصيل اللبنانية، التي لن تهتم بها واشنطن، ستتولّاها باريس الطامحة لاستعادة موقعها في لبنان، والقلقة جداً على قرب موعد الارتطام في لبنان.
نعم، هنالك بداية تفاهمات يجري صياغتها بين ادارة ماكرون رغم انشغالها بالمشاكل الفرنسية الداخلية، وبين فريق بايدن من خلال المرشح لتولّي حقيبة الخارجية انطوني بلينكن. كل ما تطلبه باريس هو مواكبة اميركية داعمة لمبادرتها لذلك، مثلاً عادت وارتفعت حرارة اهتمام ماكرون المباشرة بالملف اللبناني. لكنّ اوساط ديبلوماسية معنية تتحدث عن ازدياد مستوى الاحتقار الدولي للطبقة السياسية اللبنانية اللاهثة وراء حساباتها ومصالحها رغم انّ البلد يكاد يتحطم بالكامل.
فالاصلاحات تعتبر إجراءً مُلحاً لفتح باب المساعدة المالية، وهذا ما لم يحصل ولا يبدو انه سيحصل من خلال طريقة النزاع التي تُهًيمن على طريقة تشكيل الحكومة.
وتنقل الاوساط الديبلوماسية المطلعة بأنّ الطبقة السياسية في لبنان تَعِد كثيراً، لكنها في نهاية المطاف لا تفي بوعودها. وانّ الانفجار الذي حصل في مرفأ بيروت وأنتجَ كارثة مريعة، كشفَ انّ اللبنانيين يفتقدون الى شبكة أمان جدية وحقيقية. فكلّ هذه المساعدات والاموال التي وصلت الى لبنان، ذهبت ادراج الرياح ولم يصل منها الى اللبنانيين شيئاً.
وتختم هذه الاوساط بالقول إنّ الشعور باليأس بلغ ذروته لدى الناس، وانّ ارقام الهجرة في ذروتها، ورغم ذلك فإنّ المسؤولين في وادٍ آخر ولا يهتمون سوى لمصالحهم. وبالتالي، لا بد من ان تولد حكومة اكثر خضوعاً للمُساءلة، وليس حكومة تعزيز مواقع هذه الفئة السياسية او تلك.
وخلافا لاعتقاد البعض بأن ماكرون بدعوته للمؤتمر الاقتصادي إنما يقدم خطوة مرنة تجاه السلطة، فإن الحقيقة تشي بالعكس حيث ان هذا المؤتمر سينحصر باستكمال المساعدة الانسانية والاجتماعية للشعب اللبناني وهذه المساعدات لن تأتي عبر المؤسسات الرسمية بل ستكون فقط من خلال الجمعيات الشعبية وبالتالي فإن المؤتمر سيكون تجديدا للموقف الفرنسي السلبي تجاه السلطة اللبنانية. لذلك، قد يكون ماكرون أكثر قساوة مستقبلاً.