Site icon IMLebanon

صفقاتٌ بالمليارات… ولبنان ينزلق!

 

 

لا شيء مجانياً في السياسة. فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لم يفعل شيئاً «لوجه الله»، حتى في موضوع «الخرافة» المسمّاة «أزمة قرداحي». إنّها لعبة مدروسة جيِّداً على المستوى الإقليمي- الدولي، عنوانُها «الكلُّ رابح»: هو والخليجيون العرب والإيرانيون. وفي المبدأ، لا تُزعج إلّا الأميركيين.

يستبعد بعض المتابعين أن تكون زيارة ماكرون الخليجية، والصفقات التي أُبرمت خلالها، قد تمّت من دون رضى أميركي. فلا سبب يدفع دولة الإمارات العربية المتحدة إلى شراء مقاتلات «رافال» بـ19 مليار دولار، «مِن وراء ظَهْر» الأميركيين، خصوصاً أنّ المفاوضات لإبرام الصفقة تدور منذ سنوات.

 

ويرى هؤلاء، أنّ واشنطن ربما منحت الخليجيين ضوءاً أخضر لعقد صفقات مع فرنسا، تعوّض جزئياً ما خسرته في صفقة الغواصات الأوسترالية (قرابة 50 مليار دولار)، ما يؤدي إلى تنفيس الغضب العميق الذي أصاب ماكرون، وأبلغه إلى نظيره الاميركي جو بايدن خلال لقائهما في روما، في تشرين الأول الفائت، على هامش قمة العشرين.

 

لكن أوساطاً ديبلوماسية متابعة تنظر إلى ما فعله ماكرون من زاوية مختلفة. وثمة من يعتقد أنّ الرجل نجح في استثمار لحظةٍ حسّاسة تتقاطع فيها المصالح ضد واشنطن. ومن المثير أن يكون «المعتدل» بايدن أكثر انعزالاً على المستوى الدولي من «المتطرِّف» دونالد ترامب. فترامب كان يَقسِم العالم مِحورياً بين الذين معه والذين ضدّه. واليوم، يقف الجميع ضدّ بايدن أو على مسافة منه.

 

كان ترامب يواجه الصين وإيران، وعلاقاته بالأوروبيين تشهد المدّ والجزر. لكنه كان حليفاً قوياً لبنيامين نتنياهو، ويرتبط بعلاقات طيّبة مع فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان، ووثيق الصلة بالخليجيين العرب. فيما يبدو بايدن تقريباً في مواجهات أو علاقات باردة حتى مع أقرب الحلفاء: إسرائيل والعرب والأتراك والأوروبيين. وبقي ماكرون قريباً منه حتى نكسة الغواصات.

 

ولذلك، على الأرجح، أراد ماكرون أن تكون زيارته للخليج في نهاية ولايته، كزيارة ترامب الخليجية في بداية ولايته في العام 2917، مع الفارق الشاسع في الأرقام (صفقات ترامب تجاوزت الـ400 مليار دولار). وإذا كان الأميركي قد أراد من هذا الرصيد أن يكون الدم الذي سيُضخّ لانطلاق ولايته الرئاسية، فإنّ الفرنسي يريد المليارات لإقناع الناخبين بتجديد ولايته في نيسان المقبل.

 

براغماتية ماكرون قضت باستثمار لحظة التعثّر في مفاوضات فيينا بين الولايات المتحدة وإيران، حول الملف النووي. والذريعة الفرنسية هي: ما دام الأميركيون قد «باعونا» في صفقة الغواصات، وتجاهلوا أننا حلفاء، فلماذا علينا أن ندفع الثمن عنهم أيضاً في التفاوض مع إيران؟

 

طبعاً، هذا المنطق يقابله الأميركيون بالقول: أساساً، في أي يوم مضى، لم يقف معنا الأوروبيون. لقد ساعدوا إيران على التملّص من العقوبات التي فرضناها. ولو وقفوا معنا بصلابة لما استطاعت تقويض الاتفاق النووي.

 

اليوم، الجميع تتقاطع مصالحُهم على حساب بايدن: الإيرانيون والفرنسيون والخليجيون والإسرائيليون والروس والأتراك والصينيون، كلٌّ من زاويته. وأدرك الفرنسيون هذا التقاطع النادر، فبدأوا ممارسة اللعبة بطعم الانتقام، تقريباً. وتركيزُهم على الإمارات له مغزاه.

 

فالإماراتيون الذين وقّعوا الصفقة مع ماكرون هم اليوم في ذروة حراك ديناميكي هو الأول من نوعه، وبه يخرقون كثيراً من الجدران والحواجز. فالتطبيع مع إسرائيل مفتوح على مداه الأوسع. وبعد ترتيب علاقاتهم مع تركيا (على رغم الخلاف في مسألة «الإخوان المسلمين»)، بدأوا مسار الانفتاح مع إيران (على رغم الخلاف حول اليمن ودور «حزب الله» وسوى ذلك). وفيما اتصالاتهم مع روسيا أنتجت توثيقاً للعلاقات وبناء للثقة، ثمة ورشة هادئة يقيمونها مع الصين في مجالات مختلفة، وهي تستثير حفيظة الأميركيين. وفيما علاقاتهم بالمملكة العربية السعودية تحافظ على تماسكها، هم ينفتحون على سوريا ويستعدون للدخول بقوة في ورشة إعمارها.

 

وأما الإيرانيون، فجاءهم الانفتاح الفرنسي والعربي في اللحظة المناسبة لتخفيف الضغط الأميركي عنهم وتحسين الشروط. وفي الواقع، هم يريدون أن يقطفوا ثمار الإنفتاح مع الجميع ويعقدوا الصفقات المربحة معهم، ثم يذهبون أقوياء لمقابلة الأميركيين في فيينا.

 

في الموازاة، الإسرائيليون القلقون من اتفاق «رَخْوٍ» مع إيران، استفادوا من فشل الجولة السابعة والوقت المستقطع للجولة المقبلة، ليرسلوا وزير دفاعهم إلى واشنطن بني غانتس، ومعه رئيس «الموساد» دافيد برنياع. وذُكِر أنّه يحمل وثائق «حديثة» عن النشاط النووي الإيراني ربما تُقنع الأميركيين.

 

وطبعاً، هناك وُرَش يريد الجميع إطلاقها قريباً، على مستوى الموارد النفطية والغازية. وثمة خطوط إمداد يريدها الإماراتيون، وخطوط أخرى يريدها الإسرائيليون والعرب، وأخرى روسية وتركية، براً وبحراً وصولاً إلى أوروبا. وهذه كلها حضرت في حراك ماكرون الخليجي.

 

في هذا الخضم، يمكن النظر إلى الحجم الذي استحوذه الملف اللبناني في المملكة العربية السعودية، ومن خلاله إلى الحجم الذي أُعطي لـ»أزمة قرداحي» في انفجار العلاقات مع لبنان.

 

الفرنسيون طرحوا التسهيل من طهران والرياض معاً، منعاً لسقوط لبنان في الفوضى خلال الأسابيع المقبلة، بعدما بلغ الانهيار حدوداً قصوى. الإيرانيون قدَّموا استقالة قرداحي هدية بسيطة ورمزية للتسهيل، لا أكثر ولا أقل. والسعوديون تلقّفوا المبادرة بمقدار حجمها، فوافقوا على الكلام في الموضوع اللبناني والعودة إلى ما قبل أزمة قرداحي، لا أكثر ولا أقل أيضاً.

 

وهنا انتهت المبادرة. وهذا هو تحديداً ثمن استقالة قرداحي. وتجنّباً لإضاعة الوقت، حمل ماكرون عقود المليارات وعاد إلى باريس، حيث سيتفرّغ لتسويق معركته الرئاسية، تاركاً اللبنانيين يفكّرون جيداً في ما سيفعلون.

 

قبل أزمة قرداحي كان هناك حصار عربي خانق على لبنان بسبب «حزب الله». واللافت أنّ البيان السعودي- الفرنسي جاء قاسياً ومتشدّداً أكثر من أي يوم مضى. ويعني ذلك أنّ قرداحي لا يقدّم ولا يؤخّر جدّياً في المسار، لا في التصعيد ولا في التهدئة. فلا إيران و»الحزب» سيتراجعان في مواجهة حيوية على مدى الشرق الأوسط، ولا السعودية ستعود إلى نهج «التساهل» السابق.

 

ولذلك، الانهيار في لبنان مستمر، ولو جرت محاولات لإبطائه. واللبنانيون لا ينقصهم الذكاء. وبه كان يقتضي أن يستفيد لبنان من موقعه ويربح معارك السلم، كما تربحها الإمارات. لكن القوى النافذة في السلطة تشغّل نفسها والبلد في معارك الآخرين، ولا مشكلة عندها إذا أدّى ذلك بلبنان إلى الانسحاق والزوال.