بين العودة العربية والاستفاقة الفرنسية والكلام الفاتيكاني في بيروت خيوط متشابكة، تبدو إدارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون منغمسة فيها. لكنّ واشنطن لا توافقها على هذه الرؤية
السؤال الأبرز الذي تردّد في الساعات الأخيرة، تركّز حول موقف الولايات المتحدة من التطورات الديبلوماسية الأخيرة عربياً وفرنسياً حيال لبنان، وحول الطروحات المتداولة بشأن حزب الله، بما فيها تلك المتداولة فاتيكانياً. واستطراداً، ما هي خلفيات الانعطافة العربية والعودة الفرنسية إلى الخط اللبناني – العربي.
بحسب مطّلعين ومتصلين بدوائر أميركية مؤثرة، فإن واشنطن ليست معنيّة بكل ما تقوم به فرنسا من محاولات لوضع خريطة طريق جديدة سواء عبر الدول العربية أو مع حزب الله. وواشنطن، التي تضع أجندتها الخاصة في ما يتعلق بمقاربة الوضع اللبناني من دون التنسيق مع أي طرف أوروبي، لم تبارك أياً من الاقتراحات المتداولة التي تغذيها بعض الدوائر اللبنانية الرسمية عبر أقنية أوروبية أو فاتيكانية، والمتعلقة بمقاربة وضع حزب الله.
وفي موازاة ذلك، كشفت معلومات موثوقة فصولاً من رواية متكاملة لما يجري منذ أشهر قليلة وتبلور أكثر في الأسابيع القليلة الماضية، تتعلّق بخلفية المقاربة المستجدة للوضع اللبناني. تقول المعلومات إن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يحاول اعتماد سياسة خارجية خاصة في الشرق الأوسط، وذلك ربطاً بالأزمة السورية والتدخل الروسي فيها، والتي ترافقت مع إعراب واشنطن عن رغبتها بالخروج من الشرق الأوسط. وجاء انفجار الرابع من آب، ليعطي باريس الفرصة المناسبة. فعمل ماكرون منذ البداية على التصرف على الطريقة اللبنانية القديمة، بتقديم مبادرة وجمع الأطراف اللبنانية في قصر الصنوبر، والكلام عن «ميني اتفاق دوحة جديد»، بالتزامن مع المساعي لتشكيل الحكومة. إلا أن كل الوعود التي أعطيت له فشلت، ولم تنجح المبادرة.
وتضيف المعلومات أن الفرنسيين عمدوا في ضوء هذه النتائج إلى الدخول إلى لبنان عبر أحد الأطراف، وتلاقت رؤيته مع رؤية حزب الله ومصلحته وهو المعرّض والخاضع لأنواع عدة من العقوبات، وبدأت سلسلة اتصالات ولقاءات لا تزال مستمرة من حينه وحتى اليوم. دخل الفرنسيون في مرحلة إعادة تكليف الرئيس سعد الحريري لتشكيل الحكومة، وحاولوا تسهيل مهمته، لكنّ فرنسا اصطدمت بعوائق كان البارز فيها عدم تسهيل المسيحيين للمهمة، وعدم التجاوب مع الحريري، ما زاد قناعة الجانب الفرنسي بأن لا جدوى من الاستمرار في دعم الحريري ووقع الاختيار على الرئيس نجيب ميقاتي بديلاً عنه.
بعد الاتفاق على تشكيل حكومة ميقاتي تمّ ترسيخ العلاقة والتواصل بين إدارة ماكرون وقيادة حزب الله
الذي حصل بعد الاتفاق على تشكيل حكومة ميقاتي، أن تمّ ترسيخ العلاقة والتواصل بين إدارة ماكرون وقيادة حزب الله، وسرى اعتقاد أنه كما دخلت فرنسا سابقاً عبر المسيحيين إلى لبنان والمنطقة، ومن ثم مع الرئيس رفيق الحريري، يمكنها الدخول إلى بيروت عبر الشيعة وتحديداً عبر حزب الله. وحاولت إدارة ماكرون التسويق لهذه الفكرة مع موجباتها من خلال بعض الدوائر في الفاتيكان، فلقيت تجاوباً لديها، معطوفاً على استعداد مسبق لدى هذه الدوائر بناءً على حيثيات سبق ذكرها.
ويرد في هذا السياق موقف الفاتيكان الرافض بالمطلق لأي طروحات تتعلق باللامركزية الموسّعة والفيدرالية والحياد والمؤتمر الدولي الذي طرحته الكنيسة المارونية بقيادة البطريرك بشارة الراعي. إلا أن ثمة شخصيات فاتيكانية فاعلة لم تؤيد الأفكار الفرنسية ولا تزال تناقشها. في وقت أبدت استغرابها أخيراً لكون القوى اللبنانية المعارضة لهذه الطروحات لم تتحرك ولم تقم بأي مبادرة جدية من أجل وقف هذا المسار، الذي تعامل معه حزب الله ورئيس الجمهورية العماد ميشال عون (كما حصل في الفاتيكان أخيراً) على أنه أصبح أمراً واقعاً. مع العلم، أن المعطيات تشير إلى أن السفيرة الفرنسية في بيروت آن غريو، تدعم بقوة هذا الطرح وتعمل كرأس حربة في الترويج له.
وفي المقابل، باشر ماكرون التواصل مع العواصم العربية من بوابة الشقّ الإنساني والوضع المأساوي للبنانيين، وبذل جهوده المباشرة من أجل إقناع الدول العربية، ولا سيما منها السعودية، باستعادة دورها في لبنان، وعاد التحرك في اتجاه ميقاتي ولبنان، ليتم تفعيل التجاوب اللبناني مع الدول العربية، وهذا ما يساهم أكثر في تثبيت الدور الفرنسي وحركته في لبنان والمنطقة. علماً أن التحرك العربي الحالي لا يزال مشروطاً ومحدّداً بإطار معيّن، ويحمل جانباً له علاقة بالتعارض الحالي الحادّ بين السعودية وواشنطن ورؤيتهما للمنطقة.
لكن كل ذلك المسار الفرنسي الذي يتحرك في اتجاهات متعددة، لا يوافق عليه الأميركيون، وهم الذين لم يعتادوا على إعلان موقفهم من تحرك خارجي في شكل رسمي، إلا أنهم ليسوا في وارد تسهيل هذا المنحى. تماماً كما فعلوا منذ مبادرة ماكرون الذي أوحى بأنه ينسق مع الأميركيين، لكنّ التجربة دلّت على أن ذلك لم يحصل ولم يكونوا متوافقين معه على رؤيته.
وإذا كان من الواضح أسلوب مقاربة واشنطن للوضع اللبناني كما جرى في ملف الكهرباء والغاز المصري وصولاً إلى الترسيم البحري، فهذا يعكس جانباً من المشهد الأميركي وعدم رضى واشنطن عن المسار الذي يتعلّق «بشرعنة» حزب الله في ما يتعلق بدوره في لبنان والمنطقة. وهذا من شأنه أن يفتح مجدداً باب التجاذب المحلي ويعيد طرح الملف اللبناني من زوايا مختلفة، في مرحلة تكثر فيها الاستحقاقات الداخلية والخارجية.