السيّد رئيس الجمهورية الفرنسية إيمانويل ماكرون المحترم. أتوجه إليك من حيث أنا بتحية قلبية، فأنت الرئيس الحالي لبلدنا العريق في إرساء أسس الديموقراطية، وحقوق الانسان والمواطنة، وأنت الرئيس لأمة أهدت إلى العالم بأسره، قيم الحرية والإخاء والمساواة. على هذا الدرب سرنا، في جمهورياتنا المتعاقبة، فكانت فرنسا عن حق، الأم الحنون لهذه القيم مجتمعة، فاكتسبنا احتراماً لبلدنا في هذا العالم، على مدى حقبات متتالية، لا يمكن حصره بثمن، ولا تحديده بمصلحة عابرة.
السيّد الرئيس، إسمح لي من حيث أنا، أن ألفت عنايتك، إلى بعض ما أتابعه عن السياسة الخارجية لفرنسا. ليس موضوعي اليوم إبداء الرأي في أيّ مشاكل داخلية اقتصادية أو اجتماعية يمر بها بلدنا، بل ما أريد أن أتوجّه به إليك، بدافع النصح المنبثق من تجربة عميقة وطويلة، كما بدافع الشعور بالأبوة، كونك الآن في مقتبل العمر، فلو كان لي أحفاد فسيكونون بمثل سنك، وهذا حافز إضافي يدفعني إلى مغادرة الصمت والعزلة، وإلى اختراق حاجز الرحيل، كي أقول أمامك شهادتي.
السيّد الرئيس، لقد بنت فرنسا الحرة سياستها الخارجية على تمتين الصداقات وخلق النماذج التي يمكن أن تشبه تجربتنا الغنية. تطلعنا إلى الشرق، والجنوب، والغرب، فامتد تأثيرنا منذ نهاية القرن التاسع عشر، إلى أصقاع عديدة، فتوسعت أحلامنا، وبسطنا نفوذنا، في مناطق كثيرة، في آسيا وأفريقيا، وحجزنا لأنفسنا موقعاً متقدماً، في الصراع على بسط النفوذ، وتمكنّا من نشر لغتنا الجميلة، وعممنا تقاليدنا وحضارتنا، وصدّرنا قوانيننا، وخضنا حربين كُبريين، شاركت فيهما بنفسي، وفي الثانية ترأست حكومة تحرير فرنسا من النازية، وعدت إلى فرنسا الحرة بعد التحرير، وأعدنا مجد فرنسا وحافظنا على قيمها.
لا شك أنّ سيادتك تعرف كل هذا، فلا حاجة بي لتكراره. ويبدو أنك أيضاً تعرف، لكن ليس بعمق، عن بلد صغير على الشاطئ الشرقي للمتوسط، ساعدنا بولادته ولم نندم ولو للحظة، بأننا كنا القابلة التي أنجبت هذا النموذج. هو لبنان يا سيادة الرئيس ماكرون. الأكبر من بلد، والذي يمثّل الرسالة. هو أعجوبتنا وهديتنا إلى العالم. هو جوهرة التاج في منظومة قيم عظيمة، كان وطناً لها حتى العام 1975. هو بعض النور في ظلام طويل، ساد فوق سماء الشرق. هو المطبعة والجامعة وحرية الإعلام والصحافة. هو البلد الذي لم يشهد انقلاباً على يد جنرالات النياشين المزركشة، وهو وطن الانسان الذي وضعت فرنسا كل وزنها للحفاظ عليه.
لم ينكر قسم من اللبنانيين، يا سيادة الرئيس أمومتنا لبلدهم، بل تباهوا بها. واليوم أتابع عن بعد، كيف أنّ معظم لبنان بات يعتبر فرنسا الأم الحنون. نعم لقد استحققنا هذا اللقب، لأننا كنا للبنان، كالأم للطفل، ندافع عنه من دون حساب ولا عتاب، كي يبقى حياً، وكي يبقى حراً.
هل تعلم أنّه في فترة انتدابنا للبنان، وبعد نشوء لبنان الكبير، سكنت في المصيطبة، في أحد أعرق وأجمل أحياء بيروت المتوسطية الرائعة؟ هذا الحي هو أيضاً أصيب في انفجار بيروت، لكن ليس كباقي الأحياء. شاهدتك تجول في الجميزة الشهيدة، ورأيت كيف التفّ اللبنانيون حول رئيس فرنسا، وقد أثّر بي هذا المشهد حتى الأعماق.
السيد الرئيس ماكرون، لا تخذل هؤلاء فهم وضعوا ثقتهم بنا. لا تخذلهم فهم لم يعتادوا من فرنسا على وهم سياسات الواقعية، وتأمين المصالح والتضحية بالقيم والمبادئ. لا تخذلهم، ففرنسا بالنسبة لهم أكبر من «شاغور» مالي هادر، يحاول اقتحام أسوار ديموقراطيتنا، بلغة مصالح جافة، لن تلبث أن تسرق منا حضورنا وقيمنا وتأثيرنا في المنطقة والعالم.
سيادة الرئيس ماكرون، لبنان بالنسبة لفرنسا هو قيمة عظيمة بل رسالة اشعاع، وليس في كلامي شعر أو نثر، بل حقائق. لبنان هو عمود الارتكاز، اذا ما أرادت فرنسا أن تكون النموذج في العالم. هو صغير نعم، لكنه مؤثر، وهو الابن الشرعي لقيمنا. لن يليق بنا أن نوافق على بيع لبنان بثمن بخس. يحزنني يا سيادة الرئيس أن يكون موقف السعودية تجاه لبنان في الجانب الصحيح من التاريخ، بينما تهرول فرنسا إلى صفقة على جثة ابننا الوطن الحبيب.
أرسل لك التحية من حيث أنا. لقد أصررت ألّا يوضع على قبري إلا أربع كلمات: «هنا يرقد شارل ديغول». هذه أمثولة لجميع الأحرار، بأنّ من يصنع التاريخ لا يمكن أن يلعب دور السمسار.