IMLebanon

الجنرال غورو بين بيع الخطايا وتسويق المزايا

كأنه لم يكف شعب لبنان كل ما حلّ به من نهب ومهانة وإفقار، حيث لم تخجل منظومة الفساد والفشل والارتهان للخارج، التي تتحكم بسلطته، من جعل الإفلات من العقاب وتقويض أسس العدالة، وافراغها من قيم المساواة والأخلاق والشمولية، قاعدة شاملة تحمي النافذين في السلطة، وتمنع إحقاق الحق والاقتصاص من الأشرار، وملاحقة كل أشكال الارتكاب، سواء كانت الجريمة؛ اغتيالا أو فسادا، أو تبديدا وسرقة للودائع المصرفية، أو نهبا منظما للمالية والأملاك العامة! كان ذلك، تتويجا ونتيجة لنهج إقامة سلطة، تحكم من خارج القانون، كل قانون، وخلافا لنصوص الدستور و لروحية مواده، وهي سلطة من طبيعة مافيوية، لا تتردد تارة في التواطؤ وأخرى في التستر وثالثة في ممارسة، كل أشكال الجريمة المنظمة؛ من انتهاك البيئة وتدميرها، الى تبييض الأموال وتهريب المخدرات، والاتجار بالبشر، عبر تنظيم وتمرير حالات هجرة النازحين وتهريبهم الى أوروبا، من خلال زوارق الموت التي يبتلعها البحر الأبيض المتوسط. وصولا الى إنشاء اقتصاد أسود موازي، يستسهل التهريب الجمركي والتهرب الضريبي، ويستنزف الاقتصاد اللبناني الشرعي، ويلحق به خسائر فادحة…
ولم يكن انهيار النظام الصحي والاستشفائي وانعدام التغطية الصحية لعموم الشعب اللبناني، وفقدان الدواء، وتداعي النظام التربوي والتعليمي بكل مراحله، وتردي الخدمات العامة من كهرباء وماء واتصالات ونقل، وغياب الرقابة على مواصفات الجودة في الغذاء والماء والدواء أو ضبط مقاييس وأسعار الاستهلاك، أو معالجة النفايات المنزلية، كما صيانة الطرقات والمجاري وتصريف المياه المبتذلة، وانعدام الخدمات البلدية والمعاملات الرسمية الإدارية من مالية وقضائية وجمركية، ولم يكن ليحدث ذلك ويستمر على مدى ثلاثة سنوات وأكثر، لولا إنهاء ازدواجية التعايش بين ما هو دولتي وما هو ميليشياوي داخل منظومة الحكم، بحيث خضعت هذه المنظومة لعملية إعادة فك وتركيب لأطرافها، أدّت الى حسم الطبيعة المافوية للمنظومة بشكل سافر وشامل، بعد أن أصبح العصب الميليشياوي هو الحامي الوحيد لأطراف المنظومة وسبب بقائها وديمومتها.
في ظل الأزمة الشاملة التي تم تبيانها أعلاه وفي ظل عدم قدرة أي لبناني على متابعة حياته العادية، سواء بالذهاب لعمله، أو تعليم أبنائه، أو تامين حاجات عائلته اليومية والغذائية، أم تلبية واجباته الاجتماعية فرحا أو ترحا، أو ملاقاة أصدقائه وارتياد أماكن التسلية، وممارسة السياحة وارتياد الملاهي والمسارح والمطاعم والمنتجعات، بعد انهيار القدرة الشرائية للمستهلك اللبناني، نتيجة فقدان العملة الوطنية لأكثر من ٩٥% من قيمتها الشرائية، كان منتظرا من سلطة المنظومة وأطرافها لو كانت محترمة وراشدة، أن تلجأ الى أمور ثلاثة على الأقل:
وقف عمليات الفساد والتربّح من المال العام، حياء وخجلا، نتيجة لانكشاف سرقاتها، وبيان فداحة أضرارها، وافتضاح القطاعات التي كانت مدار ارتكاباتها، من جهة أولى، وبسبب جفاف مداخيل الدولة وانعدام مصادر تمويلها عبر الاقتراض أو تسليفها ديونا جديدة.
اللجوء الى إقرار إصلاحات بنيوية طالبت بها الدول المانحة منذ ٢٠ عاما وأصرّ عليها صندوق النقد الدولي وجعلها شرطا مسبقا واجب تنفيذه، قبل مد يد المساعدة الى لبنان.
إقرار جملة من القوانين المطلوبة التي تسمح بوضع إطار قانوني لعمليات استعادة العافية الاقتصادية.
إعادة هيكلة مصرف لبنان والمصارف التجارية، والاعتراف بالخسائر الفعلية، من أجل إنهاء عمل المصارف غير القابلة للحياة، وتنفيذ تدقيق مالي جنائي في مؤسسة كهرباء لبنان، إضافة لقانون كابيتول كونترول وتوحيد سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار… الخ
لكن المافيا الحاكمة كانت في وارد آخر فقد ناورت وداورت، لكي لا تقوم بأية خطوة إصلاحية، لا على صعيد التشريع ولا في المجال المالي ولا في المجال الاقتصادي أو الإداري، بل استمرت تبحث عن المزيد من صفقات الهدر والسرقات وامعنت في النهب المنظم في كل مجال.
فقد فاقمت حكومة « حسان دياب» التي استندت الى تحالف حزب الله مع حركة أمل وتيار عون، أزمة لبنان الجريح وعمقتها، وكانت مهمتها استنزاف ١٧ مليار $ أميركي من موجودات مصرف لبنان، لمساعدة نظام الأسد في مواجهة قانون قيصر الأميركي.
لا سبيل لتغيير سلوك المنظومة أو ردعها، لا بضغط داخلي ولا بمساعٍ دولية أو اقليمية، وأوهام المبادرة الفرنسية حول ذلك وصلت الى حد المهزلة المؤلمة، ان لم تكن  أصلا خديعة دنيئة تمت ممارستها وتمريرها على الناس ومجموعات انتفاضة ١٧ تشرين، فيوم زيارة الرئيس الفرنسي ماكرون الى بيروت بعد انفجارها الهائل، حسب اللبنانيون انها زيارة تعاطف مع الضحايا، لكن واقع الأمر تكشف مناقضا لكل ذلك، فنيترات المرفأ الروسية المنشأ اشترتها شركة وهمية تعمل لصالح منظومة الممانعة، التي خزّنتها وحرستها ونقلتها واستعملتها، في سورية وفي غير سورية، ومنعت أي جهة أخرى من التصرف بها، وفي لحظة توتر وتصعيد مع إيران، تحركت إسرائيل عبر عملائها وفجرتها، تلك حقيقة، الأرجح أن يعرفها ماكرون، وقد أتى بيروت ليطمسها ويمنع تحولها الى أزمة متدحرجة، حماية لإيران وإسرائيل معا، ومنعا لتصعيد يؤدي الى حرب شاملة. ولم يكن تعطيل التحقيق في المرفأ فعلا محليا فقط، بل نال رضا خارجيا وازنا.
أما حكومة المهمة والانتخابات النيابية المبكرة، التي خُيِّل للمتفائلين بالمبادرة الفرنسية، إنهما لإخراج لبنان من أزمته ووضعه على سكة الإصلاح والتعافي الاقتصادي، فقد اسقطهما الرئيس الفرنسي، لحظة لقائه برئيس كتلة حزب الله النيابية في قصر الصنوبر، فتحولت حكومة المهمة الانقاذية» بقيادة السفير مصطفى اديب الى حكومة «نجيب ميقاتي» التي تولت عملية تعويم المنظومة الفاسدة وإعادة إنتاجها.
بين البكاء على ضحايا بيروت، والشهية المفرطة لتوقيع العقود ونيل الاستثمارات في ايران والعراق، حرصت فرنسا على شلّ فعاليات انتفاضة ١٧ تشرين والتلاعب بتناقضاتها وتعطيل مبادراتها. وعلى خط مواز لم تبخل حكومة ميقاتي بأي عمل يقضي باسترضاء فرنسا بسلسلة من المصالح والعقود. ولذلك فقد استطاع الفرنسي حتى اللحظة أن يأخذ:
1) ترسيم الحدود البحرية ويضمن استثمار توتال للثروات البحرية اللبنانية.
2) كما توصل لإبرام عقود في العراق بقيمة ١٧ مليار $ اميركي، لم تكن لتوقَّع لولا رضا إيران وقبولها…
3) إضافة لعقدي تشغيل مرفأي بيروت وطرابلس والى نيل امتياز ليبانبوست.
فيما تبقى عينها شاخصة للحصول على حصة وازنة من الـ MEA وعلى حاكمية مصرف لبنان وكهرباء لبنان.
برّر ماكرون اجتماعه بكتلة حزب الله بوزن حزب الله التمثيلي والنيابي، وتابع اعتماد هذا المقياس بعد الانتخابات النيابية الأخيرة، لو سلمنا جدلا بهذا المقياس، على الرغم من انه ليس هناك من انتخابات حقيقية، في الدوائر ذات الأغلبية الشيعية، منذ سنة ٢٠٠٠، إذا سلمنا جدلا بمقياس التمثيل النيابي، كيف يفسر لنا مستشرقو الاليزيه تزكيتهم لوصول سليمان فرنجبة لرئاسة الجمهورية؟
الأنكى والأخطر في الحراك الفرنسي، ان حملة تسويق الوزير فرنجية، تأتي على شاكلة قدرته على توفير ضمانات تقدم للمملكة العربية السعودية من مثل:
1) تعهد بوقف تهريب المخدرات الى دول الخليج.
2) وقف التدخل العسكري لحزب الله في اليمن والبحرين.
3) قدرته على إقناع نظام الأسد باسترجاع النازحين السوريين الى وطنهم.
كيف لدولة كبرى تتبنّى قِيَم الجمهورية والديمقراطية وحقوق الإنسان، كفرنسا، أن تروّج لهذا الصنف من المبادلات، فتهريب المخدرات جريمة تستحق العقاب وليست مزية تؤهل صاحبها أو صديق صاحبها، لنيل جائزة أو مكسب أو ربح، أمَّا تدخل حزب الله في دول الاقليم فهو خرق للقانون الدولي، واعتداء على سيادة دول أعضاء في منظمة الأمم المتحدة ك لبنان واليمن والبحرين، فهل أصبح لخرق القانون الدولي منحة وهدية؟! أما عودة النازحين السوريين الى بيوتهم فهو حق إنساني لا يجوز مقايضته والتكسب من تنفيذه!!
الأغرب في حملة التسويق هذه أن الضمانات مطلوبة من مرشح لا سلطة له ولا إمرة لديه، لا على النظام السوري ولا على حزب الله، بل في حساب الأوزان والأحجام، فهو الطرف الذي يتلقى التوجيهات والنصائح وليس من يصنعها ويطلقها!
لا اعتراض عندي على تسلّم شركات فرنسية إدارة مرافق لبنانية وخدمات عامة مختلفة، وقد لا اعترض أيضا، على ممارسة فرنسا لوصاية على لبنان بعد الحالة المزرية التي اوصلتنا اليها منظومة الفساد والفشل والارتهان للخارج، بل على العكس إذا كانت فرنسا راغبة حقا بإدارة لبنان، فهي مرحب بها، بشرطين؛
الشرط الأول أن تأخذه كاملا، وليس أن تدير قطاعا، وتهمل آخرا، بل تجعله مقاطعة كبقية مقاطعاتها من وراء البحار، خارج ال Hexagone فيصح فينا كشعب، ما حدث لعملة الزحلاوي، وهو (المتليك/ أي قرشين ونصف/)، وكانت هذه العملة على شكل دائرة نحاسية في منتصفها ثقب يسمح بشكها بخيط لحملها… لسبب ما، ألغي المتليك المثقوب، وحلّ بدلا منه، متليك مطابق له دون ثقب، ذهب رجل زحلاوي الى سوق النحاسين في دمشق، وطلب من النحاس أن يسد ثقب المتليك سائله عن الكلفة، أجابه النحاس؛ «ان سد ثقب المتليك يكلف متليكا»، أجابه الزحلاوي؛ سدوا وخذوا.
أما الشرط الثاني فهو أن يكلف الجنرال غورو أو أحد من أحفاده بحكم لبنان، لا أن يتم إحياء المنظومة الفاشلة وإعادة تدويرها.. لا نفتقد في لبنان إستيراد سماسرة، بل نفتقد رجال دولة.