Site icon IMLebanon

ماكرون يتوغل في حقل الألغام اللبناني

 

قد تكون المبالغة هي إحدى سمات الحياة السياسية اللبنانية، أكان ذلك سلباً أم ايجاباً، فكيف بالحري في مرحلة صاخبة وحساسة وضبابية كتلك التي تمرّ حالياً، إن على المستوى الداخلي واستحقاقاته الكبيرة، او على المستوى الاقليمي والتحوّلات الهائلة الحاصلة. أضف إلى ذلك المحطات الزمنية الداهمة، أكانت داخلية مثل «الفراغات» المتلاحقة في مواقع أساسية، والتي تهدّد ما تبقّى من الهيكل المهترئ للدولة اللبنانية كمثل حاكمية مصرف لبنان، في ظلّ الشغور الرئاسي، أم اقليمية كمثل القمة العربية والتي ستنعقد بعد منتصف الشهر المقبل في السعودية، على وهج المصالحة السعودية ـ الايرانية وظهور «طيف» الصين للمرة الاولى في الشرق الاوسط، وحيث ملف إعادة سوريا إلى الحضن العربي لم يصل إلى خواتيمه الحاسمة بعد.

وما بين هذه التواريخ حربان كبيرتان تلفحان أرجاء الشرق الاوسط. الاولى في اوكرانيا والتي دخلت عامها الثاني مع مزيد من اللهيب والدمار، وسط استعدادات اوكرانية لهجوم معاكس على وقع مساعدات عسكرية اميركية واوروبية، كان آخرها إرسال المانيا لمنظومة صواريخ «باتريوت» للدفاع الجوي. والثانية بدأت للتو، وهي أقرب بكثير جغرافياً، وتقع في الحضن العربي، والمقصود هنا السودان، حيث تشير المعطيات إلى حرب دموية طويلة عند البوابة الشرقية لإفريقيا والمجاورة لمصر والسعودية، وحيث بدأ الهمس عن كباش اميركي ـ روسي عند شاطئ البحر الاحمر، حيث تسعى روسيا لإنشاء قاعدة بحرية لها، بعد ان نجحت مجموعة «فاغنر»الروسية في نسج علاقات تعاون مع قوات الدعم السريع المشتبكة مع وحدات الجيش. وهو ما يعني أنّ المصالحات والتفاهمات تختلط مع الحروب والنزاعات، وفي كلا الحالتين إعادة رسم الخرائط وفق مصالح القوى الكبرى وعلى وقع الحرب الباردة المتصاعدة بين واشنطن وبكين.

 

وانطلاقاً من هذه التشابكات والتبدّلات، شرع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في البحث عن موقع نفوذ لبلاده، وعلى أساس انّ فرنسا هي العاصمة السياسية لأوروبا، وما بين خروجها من إفريقيا وفقدانها لآخر موطئ نفوذ خارجي، وبين الحرب المستعرة في اوكرانيا والتي تستنزف القارة العجوز، قد يكون ماكرون وجد في الاعتماد على المساعدة الاميركية على مستوى الخريطة الدولية عقبة اكثر منه إفادة، أمام سعيه إلى تحقيق المصالح الفرنسية. وفي غياب الهيبة العسكرية، شعر الرئيس الفرنسي بضرورة التعويض عبر سلوك درب التسويات، من خلال المفاوضات الديبلوماسية. أضف إلى ذلك، الأزمات الداخلية التي انفجرت في وجهه مع بداية ولايته الثانية، والتي جاءت ذروتها مع ازمة رفع سن التقاعد وما تلاها من تراجع حاد في شعبيته وخسارته الغالبية البرلمانية. كل هذا شكّل حافزاً له للتمايز والذهاب إلى الصين والسير بسياسة مستقلة في الشرق الاوسط. وهو سلوك على درجة عالية من المخاطرة. ففي الصين حقق ماكرون نقاطاً تجارية، ولكنه فشل في تحقيق نقاط سياسية. وعلى سبيل المثال، لم يجاريه الرئيس الصيني في الملف الاوكراني ولا حتى في إجراء اتصال مباشر مع الرئيس الاوكراني، لكنه طرح خطة استثمارات ضخمة في الصناعة الخضراء في اوروبا، ووقّع اتفاقيات تجارية عدة. وهذا ما جعل الانتقادات الفرنسية كما الاوروبية، ولا سيما منها الالمانية، تطاوله بعد عودته إلى باريس، خصوصاً لجهة دعوته إلى الوقوف كفريق ثالث بين واشنطن وبكين. وتركّزت هذه الانتقادات على أنّه يرفع نبرة خطابه اوروبياً كتبرير لتنازلات سياسية قدّمها للصين في مقابل عقود تجارية.

 

وفي إطار استراتيجيته الجديدة، انطلق في اتجاه الشرق الاوسط عبر البوابة اللبنانية، والتي تشكّل إحدى آخر ساحات الحضور الفرنسي في العالم. وبعد الفشل الذي حصدته مبادرته الاولى غداة انفجار الرابع من آب والثانية مع اعتذار مصطفى اديب عن مهمّة تشكيل الحكومة، انصرف ماكرون إلى استرجاع الدروس الفرنسية حيال الأزمة اللبنانية، فاستمع لشهادات مسؤولين سابقين تعاطوا بالملف اللبناني ايام الرئيسين فرنسوا ميتران وجاك شيراك، قبل ان يتوصل إلى خلاصته التي ترتكز على استعادة تجربة شيراك اللبنانية، مطعّمة بدروس مرحلة ميتران الدموية. وخلص إلى استبدال المعادلة التي كانت قائمة على ركيزة شيراك ـ رفيق الحريري، والذي كان يشكّل حضوراً قوياً مسنوداً على الخليج، الى معادلة ماكرون ـ «حزب الله»، والذي يشكّل القوة الطاغية داخل التركيبة اللبنانية. وكما كان شيراك يعتبر المسيحيين تحصيلاً حاصلاً ولن يخرجوا عن المظلّة الفرنسية، انطلق ماكرون من المبدأ نفسه وشاركه في رسم خطوط سياسته الجديدة كبير مستشاريه ايمانويل بون، والذي عمل كسفير لفرنسا في لبنان في مرحلة سابقة.

 

وفي حسابات ماكرون، انّ التحولات الجارية في الشرق الاوسط تدفع للاسراع في الإمساك بيد «حزب الله»، خصوصاً انّ فرنسا هي البلد الغربي الوحيد الذي بقي على تواصل دائم معه. واستطراداً، إنجاز تفاهمات كاملة معه انطلاقاً من الساحة اللبنانية واستثمارها في ملف العلاقات مع ايران، وسط كلام عن لقاء مباشر قريب بين السعودية و»حزب الله». أضف إلى ذلك، مصالح فرنسا التي تدفعه للذهاب في هذا الاتجاه، إن على مستوى الغاز في الجنوب عبر شركة «توتال»، أو حتى على مستوى الحضور الشيعي الكثيف في إفريقيا. كذلك الاستثمارات في لبنان مثل مرفأ بيروت، وهو ما يشهد على ذلك علاقة دافئة بين وزارة الاشغال وباريس. وسعى ماكرون للتمهيد جيداً لتفاهمه مع «حزب الله»، حيث تناول الملف اللبناني ولو بسرعة في نهاية محادثاته في الصين، وسعى للقاء مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في طريق عودته إلى فرنسا. وعلى رغم من انّه لم يوفق بذلك مستعيضاً عنه باتصال هاتفي طويل، فإنّه ارسل مستشاره باتريك دوريل إلى السعودية لتعبيد الطريق امام تفاهمه الجديد مع «حزب الله» عبر تمرير معادلة سليمان فرنجية ـ نواف سلام، وإزالة التحفظات السعودية من خلال التزامات يقدّمها فرنجية. وتمّ تلزيم السفيرة الفرنسية في بيروت آن غريو مهمّة إحداث خرق في جدار القوى المسيحية.

 

على المستوى السعودي، ثمة لغط كبير حيال حصول تبدّل في موقفها، وهو ما عززه تصريح فرنجية بأنّه لم يسمع بوجود «فيتو» سعودي عليه. وأدّى ذلك إلى زيادة مستوى الغموض، بين متمسك بوجود معارضة سعودية وقائل بعدم وجودها.

 

كذلك لم يظهر اي تبدّل في موقف القوى المتحالفة مع السعودية، مثل «القوات اللبنانية» وكتلة وليد جنبلاط. وهذا ما يدفع منطقياً إلى تبنّي الرواية التي تقول انّ السعودية أبلغت إلى دوريل: «إذا كنتم مصرّين على موقفكم فافعلوا ما تريدون، ولكن لا تتوقعوا منا المساندة والدعم الذي كنا سنقدّمه للمرشح الذي يحظى بمواصفاتنا».

 

وفي لبنان سعت السفيرة الفرنسية لإتمام مهمتها في موازاة الحركة الفرنسية ـ السعودية. لكن غريو التي تعلّمت سريعاً خفايا وكواليس السياسة اللبنانية، كانت تدرك صعوبة مهمّتها، وهو ما جعلها عرضة للاستهداف الاعلامي من خلال التشكيك بصدقيتها. والسفيرة الفرنسية التي ركّزت خلال لقاءاتها بالقوى المسيحية على انّ خيار فرنجية هو الخيار الأكثر واقعية، وانّ البديل الآخر هو إطالة فترة الشغور، فإنّها سمعت موقفاً معارضاً ثابتاً من القوى المسيحية المتناقضة في ما بينها.

 

وفيما كان دوريل يقول للنائب سامي الجميل «أنّ هنالك فريقاً معه 55 صوتاً ومن الطبيعي ان تتعامل معه، الّا اذا اتيتم بمرشح لديه عدد الاصوات نفسه ما سيجعلنا نتعاطى معه بالجدّية نفسها»، كانت غريو تقول للقيادات المسيحية: «اعطونا اسماء تتفقون عليها جميعاً». لكن القيادات المسيحية لم تبدِ اي ليونة. وامس الاول استُدعيت السفيرة الفرنسية على وجه السرعة إلى باريس من دون الإفصاح عن السبب.

 

والمؤشر الأهم كان تلك الزيارة التي قامت بها السفيرة الاميركية دوروثي شيا لبكركي بعد اقل من 24 ساعة على زيارة فرنجية وإعلانه ترشحه. وهي زيارة ملفتة لجهة التوقيت والمكان، وسط غياب اي موقف اميركي واضح منذ ظهور المبادرة الفرنسية، باستثناء العقوبات على الاخوين رحمة. وفي انتظار القمة العربية المنتظرة وما سينتج منها، لا بدّ من طرح النقاط الآتية:

 

1- هل «الانتفاضة» الفرنسية جاءت كردة فعل على ما أُشيع عن موت المبادرة الفرنسية، ام استباقاً للزيارة الثانية للموفد القطري والمنسقة مع السعودية، والتي قيل انّها ستتضمن هذه المرة افكاراً منسّقة ومتكاملة؟

 

2- هل ستتكرّر ردّة الفعل نفسها بين «القوات اللبنانية» و»التيار الوطني الحر» من خلال تقصير مسافة التباعد السياسي بينهما كما حصل عامي 1988 و 2015؟

 

3- كيف ستتصرف واشنطن مع المستجدات الحاصلة والتفاهم الفرنسي مع «حزب الله»، خصوصاً انهّا تقرأ المعادلة اللبنانية من الزاوية الاقليمية العريضة، اضف إلى ذلك انّ «حزب الله» يدرك انّ إنجاز التسويات مع واشنطن يبقى اكثر ثباتاً كما حصل مع ترسيم الحدود، فيما الحضور الفرنسي أضعف، خصوصاً انّ ماكرون يعاني داخلياً، وهنالك من يعارض استراتيجيته الجديدة داخل ادارته نفسها، وعلى مستوى وزارة الخارجية ومسؤولين آخرين.